ولد علي محمود طه في مدينة المنصورة، التي أخذت اسمها من انتصار المصريين على ملك فرنسا لويس التاسع قائد الحملة الصليبية التي انتهت بأسره في دار ابن لقمان، ولد عام 1902، وتخرج في مدرسة الفنون التطبيقية مهندساً، ومن هنا فقد حمل لقب الشاعر المهندس، وتقلد وظائف عدة كان في آخرها مديراً لمكتب رئيس مجلس النواب في مصر، حتى كانت وفاته عام 1949 مخلفاً للمكتبة العربية ثروة من الدواوين الشعرية: الملاح التائه، ليالي الملاح التائه، أرواح شاردة، أرواح وأشباح، زهر وخمر، شرق وغرب، الشوق العائد، وأغنية الرياح الأربع.
لكن شهرته الشعرية بلغت أوجها عندما تغنى الموسيقار محمد عبد الوهاب ببعض قصائده: الجندول وكليوباترة وفلسطين، فأصبح اسمه على كل لسان، وبدأ شداة الشعر يفتشون عن دواوينه ويتخاطفونها ويكتشفون فيها لغته الشعرية المترفة، وتعبيره الأنيق، وخياله المحلق، فضلاً عن أصداء ساحرة لرحلاته في كل صيف إلى أوربا، من خلال قصائده عن نهر الراين وبحيرة كونو وجندول البندقية، وأطياف شعرية انسكبت في عالمه الشعري من خلال قراءاته وترجماته لكبار شعراء الرومانتيكية في الغرب وفي مقدمتهم لامارتين وألفرد دي فيني في الفرنسية وشيلي وكيتس وبيرون في الإنجليزية.
من بين قصائد ديوانه الثاني: ليالي الملاح التائه تلتمع قصيدته: التمثال، التي تعد نموذجاً فريداً لأسلوبه الشعري، وطريقته في التصوير، واستقصاء الفكرة الشعرية، وهو يقدم لها بمقدمة نثرية يقول فيها:
"الإنسان صانع الأمل، ينحت تمثاله من قلبه ومن روحه، ولا يزال عاكفاً عليه يبدع في تصويره متخيلاً فيه الحياة ومرحها وجمالها، ولكن الزمن يمضي ولا يزال تمثاله طيفاً جامداً وحجراً أصم، حتى تخمد وقدة الشباب في دم الصانع الطامح وتشعره السنون بالعجز والضعف، فيفزع إلى معبدأحلامه هاتفاً بتمثاله، ولكن التمثال لا يتحرك، ولكن الحلم الجميل لا يتحقق، وهكذا تجتاح الليالي ذلك المعبدوتعصف بالتمثال فيهوي حطاماً، وهنا يصرخ اليأس الإنساني ويمضي القدر في عمله".
ويقول الناقد أنور المعداوي في دراسته عن الأداء النفسي في شعر علي محمود طه وهو يحلل قصيدة التمثال: هي قصة الأمل الإنساني في فصولها الأربعة، يصور الشاعر في الفصل الأول منها رحلته إلى التمثال، تمثال الأمل الذي نحته من قلبه وروحه، إنه يريد أن ينفرد ليناجيه في الليل حين تهجع الكائنات وتستيقظ الذكريات، وفي الفصل الثاني نرى الشاعر وهو ينثر مجموعة هداياه تحت قدمي التمثال عسى أن يتحرك، ولكن الحلم الجميل لا يتحقق، وفي الفصل الثالث نرى النفس الإنسانية وهي في لحظة من لحظات الهزيمة والمرارة التي لا تترك في وأعماق الشاعر إلا آثار اليأس والقنوط والزفرات والحسرات، وفي الفصل الرابع والأخير نشهد ختام المعركة بين الوهم والحقيقة، إنها معركة ضارية تنشب داخل النفس وتمتلئ بغبارها العين وتنجلي حين تنجلي عن صرعى ظنون وعن شهداء آمال.
يقول علي محمود طه:
أقبل الليل، واتخذت طريقي
لك، والنجم مؤنسي ورفيقي
وتوارى النهار خلف ستار
شفقي من الغمام رقيق
مد طير المساء فيه جناحاً
كشراع في لجة من عقيق
هو مثلي، حيران يضرب في الليـ
ـل ويجتاز كل واد سحيق
عاد من رحلة الحياة كما عد
تُ وكلٌّ لوكره في طريق
أيهذا التمثال هأنذا جئـ
ـتُ لقاك في السكون العميق
حاملاً من غرائب البر والبحـ
ر ومن كل محدث وعريق
ذاك صيدي الذي أعود به ليـ
ـلاً وأمضى إليه عند الشروق
جئت ألقي به على قدميك الـ
آنَ في لهفة الغريب المشوق
عاقدا منه حول رأسك تاجا
ووشاحا لقدك الممشوق
* * * *
صورة أنت من بدائع شتى
ومثال من كل فن رشيق
بيدي هذه جبلتك من قلـ
ـبي ومن رونق الشباب الأنيق
كلما شمت بارقاً من جمال
طرتُ فى إثره أشق طريقي
شهد النجم كم أخذتُ من الرو
عة عنه، ومن صفاء البريق
شهد الطير كم سكبتُ أغانيـ
ـه على مسمعيك سكب الرحيق
شهد الكرم كم عصرتُ جناه
وملأت الكئوس من إبريقي
شهد البرما تركتُ من الغا
ر على معطف الربيع الوريق
شهد البحر لم أدع فيه من در
جدير بمفرقيك خليق
ولقد حير الطبيعة إسرا
ئي لها كل ليلة وطروقي
قلت: لا تعجبي، فما أنا إلا
شبح، لج في الخفاء الوثيق
أنا يا أم صانع الأمل الضا
حك في صورة الغد المرموق
صغته صوغ خالق يعشق الفن
ويسمو لكل معنى دقيق
وتنظَّرته حياة، فأعيا
ني دبيب الحياة في مخلوقي
* * * *
معبدي، معبدي، دجا الليل إلا
رعشة الضوء في السراج الخفوق
زأرت حولك العواصف لما
قهقه الرعد لالتماع البروق
لطمت في الدجى نوافذك الصم
ودقت بكل سيل دفوق
يا لتمثالي الجميل احتواه
سارب الماء كالشهيد الغريق
لم أعد ذلك القوي فأحميـ
ـه من الويل والبلاء المحيق
ليلتي! ليلتي ! جنيت من الآثا
م حتى حملت ما لم تطيقي
فاطربي واشربي صبابة كأس
خَمرها سَال من صميم عروقي
* * * *
مرّ نور الضحى على آدمي
مطرق في اختلاجة المصعوق
في يديه حطامة الأمل الذاهب
في متعة الصبا الموموق
واجما أطبق الأسى شفتيه
غير صوت عبر الحياة طليق
صاح بالشمس لا يرعك عذابي
فاسكبي النار في دمي وأريقي
جن قلبي، فما يرى دمه القا
ني على خنجر القضاء الرقيق