بحث كثيرون في الاشتراك اللفظيّ (المعاني المختلفة وحتّى المتضادّة للّفظ الواحد) وفي الترادف (المعنى المشترك للألفاظ المتعدّدة)، فلا حاجة بنا للعودة إلى الموضوع، وإن كان مصطلحهم في هذا ملتبسًا. لكنّنا سندلف من ذلك إلى الدائرة المفرغة التي يدخلنا فيها بعض اللغويّين، الذين يوحون أنّ افتراضاتهم حقائق، على حين أنّ بعضها يجافي الاستعمال وتطوّره أحيانًا.
وسنتّخذ مثالًا لذلك فِعْلَيْ: «جَلَسَ وقَعَدَ». فاللغويّون يجعلون الفِعلين مترادفين، وحين يشرحون معنى القعود لا يجدون إلاّ قولهم: نقيض القيام، مؤكّدين مع ذلك أنّ القعود قد يدلّ على القيام أيضًا، من غير أن يشملوا الجلوس بهذه الخصوصيّة، فهو يدلّ، عندهم، على نقيض القيام فحسب. وحين نحاول البحث عن معنى القيام، نجده عندهم نقيض الجلوس، فنحن في دائرة مفرغة، يُفَسّر فيها الشيء بنقيضه، من غير بيان معنى أيّ من النقيضين. وهذا التعريف بالنفي ممّا لا يقبله العلماء، لاسيّما حين يفتقر المنفيّ إلى التعريف.
ولننظر إلى فعل «جَلَسَ» في سياقين مختلفين: السياق الأوّل هو الحديث النبويّ الذي يشير إلى أنّ الإمام عليًّا كان مضطجعًا في المسجد، فجعل النبيّ يمسح التراب عن ظهره ويقول له: «اجْلِسْ يَا أَبَا تُرَابٍ»، وفي رواية أخرى «قُمْ أَبَا تُرَابٍ، قُمْ أَبَا تُرَابٍ». فهنا يبدو الجلوس مرادفًا للقيام من الاستلقاء، ويبدو القيام ضدًّا للاضطجاع.
أمّا السياق الثاني، فهو قول أبي نواس المشهور
قُلْ لِمَنْ يَبْكي عَلى رَسْمٍ دَرَسْ - واقِفًا، ما ضَرَّ لَوْ كانَ جَلَسْ؟
فهنا يبدو الجلوس ضدًّا للوقوف، أوانتقالًا من الوقوف إلى القعود. وشتّان ما بين الحالين.
والحقيقة أنّ الجلوس هو صورة الإنسان أو الحيوان حين يستقرّ على إلْيَته، سواء ألصقها بالأرض أو بمَقْعد أو بعَقِبيه أو بساقيه، ولو متّكئًا على رءوس أصابعه، وسواء اتّخذ هذه الصورة بعد استلقاء أو اتّخذها بعد وقوف. فلا تهمّ الحال السابقة لتلك الصورة، بل المهمّ هو الصورة نفسها. ومن هنا قد تبدو مبالغة اللغويّين القائلين بالإضداد، ناشئة عن تصوّرهم للحركة أو للحالة وتصوّرهم لما يسبقها أو يليها، على أنّ الاثنتين معًا من مكوّنات معناها، من غير أن يعنوا بالصورة الذاتيّة للحركة أو الحالة، ولذلك يخرج عملهم عن المنطق حين نحاول إدخال ما يفترضونه ضدًّا في الاستعمال. فحين يقولون إن لِقَعَدَ معنى جَلَسَ ومعنى قامَ، لا يمكن أن يتصوّر أحد أنّ المَقعَد هو مكان القيام أو الوقوفِ، لأنّه عند الجميع مكان الجلوس فحسب.
وقد حاول أبو هلال العسكريّ التفريق بين القعود والجلوس بأنّ الأوّل انتقال من سُفْل إلى علوّ، فيقال للنائم: اقْعُدْ، وأنّ الجلوس انتقال من علوّ إلى سُفْل، فيقال للقائم: اجْلِسْ، لكنّه يستدرك بأنّ أحد الفعلين قد يستعمل مكان الآخر، فيقال مثلًا: جَلَسَ متربّعًا. غير أنّ ابن سيده يقول خلاف ذلك فيجعل القعود والجلوس واحدًا، لكنّه يشترط للقعود أن يجيء بعد قيام، لعلّه يريد نحو الحديث الشريف: «كان النبيُّ يخطبُ قائمًا ثم يَقْعُد». لكنّ أحاديث الجنائز تدحض هذا الزعم، ومنها «قَدْ جَلَسَ بَعْدَ مَا كَانَ يَقُومُ» وكذلك «قَامَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) ثُمَّ قَعَدَ». وقد فرّق الرازيّ في تفسيره بين الفعلين بمدّة المكْث، فإن كان المُكْث طويلًا ودائما وثابتًا قيل: قَعَدَ، وإن كان قصيرًا قيل: جَلَسَ، أي أنّ العسكريّ فرّق بين الفعلين باتّجاه الحركة، وفرّق الرازيّ بينهما بمدّة الاستقرار، وفرّق ابن سيده بينهما بالحركة التي قبلهما.
والحقيقة أنّ هذه الفروق المفترضة مجرّد تأويلات غير متّفق عليها. ونكرّر القول إنّ أحدًا لا يعرف كيف ابتدأ استعمال الكلمات القديمة، ولا كيف تطوّر، بحيث فارقت معناها الأوّل أو بقيت على صلة به، إلاّ أن يكون الاستعمال محدَثًا أو مقتبسًا من لغة أجنبيّة، فالتطوّر في الاستعمال يؤدّي إلى افتراق المترادفات المفترضة دلاليًّا، بما ينفي ترادفهما أو يكاد. ومن هنا صعوبة تأليف المعجم التاريخيّ العربيّ، ولابدّ فيه من ترك التأريخ للبدايات الشفهيّة الأولى، والبدء من حيث بدأ التدوين، بل ربّما من حيث استقرّ التدوين واتّسع، وإذا كان الرازيّ قد توقّف عند العبارة القرآنيّة «في مَقْعَدِ صِدْقٍ» ليفرّق بين القعود والجلوس ذلك التفريق، فإن الطبريّ، وهو أبو المفسّرين، لم يتوقّف قطّ عندها واكتفى بتفسير المَقْعَد بالمَجْلِس، وكذلك فعل القُرطبيّ. ولا نستطيع اعتماد استعمال خاصّ لهذا الفعل لنقول بانفراده بمعنى خاصّ دون ذاك الفعل، فالاقتصاد اللغويّ يحمل المستعمل أحيانًا على الاستغناء عن الكلمة بما يرادفها، وعلى اشتقاقٍ دون اشتقاق، وقد أشرنا في مقالات سابقة إلى قول سيبويه باستغناء العرب عن فعلي «وَدَعَ ووَذَرَ» بفعل «تَرَكَ»، وبيّنا أنّهم قد يستعملون اسم المكان من الثلاثيّ المجرّد لما هو مزيد، واسم المصدر مكانَ المصدر نفسه، إلخ.
فاستعمال الجلوس وترْك استعمال القعود، في موضع ما، أو العكس، ليس بالضرورة دليلًا على فساد استعمال المتروك استعمالُه في ذلك الموضع، بل ربّما دلّ على إيثار المستعمِل لأحد الفعلين، لسَبْقه إلى الوجود اللغويّ في ذلك الموضع، أو لانتفاء الرغبة في استعمال المترادفَيْن للموضع نفسه، أو لمجرّد شعور لغويّ خاصّ يتّصل بالاستخفاف أو الاستحسان أو غيره، وقد يطغى استعمال على استعمال فيُمِيتُه، وقد تُستعمل عبارة في قبيلة وتستعمل مرادفتها في قبيلة أخرى. ولا شكّ في أنّ فعل «جَلَسَ» ومصدره ومشتقاته أوسع استعمالًا ممّا يقابلها من فعل «قَعَدَ»، وأنّ كلا منهما قد اختصّ بعدد من الاستعمالات دون الآخر، فقد استغنى العرب بالمَقْعَد عن المَجْلِس، لمعنى المكان الذي يستقر عليه الإنسان، واستغنوا بالمَجْلس عن المَقْعَد، لمعنى المكان الذي يجتمع فيه الناس قعودًا، واستغنوا بالقُعود عن الجُلوس، لمعنى الامتناع من القيام أو العجز عنه، واستغنوا بالجلوس عن القعود، لبعض هيئات القعود، لاسيّما إذا كان الاستقرار على بعض الأطراف، مثل جلس متربّعًا، وجلس على ركبتيه، وجلس على أطراف أصابعه، إلخ. وسوَّوا بين الفعلين في مواضع كثيرة، فقيل مثلًا: قَعَدَتْ الرَّخَمة وجلستْ، بمعنى جَثَمَتْ. وقيل: جلسَ على المنبر وقَعدَ عليه، وقيل: جلسَ القُرفصاء وقعد القُرفصاء، وقيل: جلسَ المصلّي بين السجدتين وقعد بينهما، وقيل: الجَليس والقَعيد، وإن كان الجليس أكثر استعمالًا، وقيل: أجلسه على سريره وأقعده عليه، إلخ.
وكلّ ذلك ينفي مزاعم التفريق بين الفعلين بالعلوّ والسفول، وبالاستلقاء أو الاتّكاء والقيام، وبالدوام والوقتيّة، إلخ. ويدْعونا إلى الاحتياط من فرضيّات القدماء، وإلى إمعان النظر فيها قبل قبولها أو رفضها.