سئل مرة الكاتب الروسي الكبير أنطون تشيكوف وكان طبيبا، أيهما أهم في حياته، الطب أم الأدب؟. فقال إنه يعد مهنة الطب زوجته الشرعية بينما يعد الأدب عشيقته، ولا غنى له عن أي منهما.
أما الكاتب الإنجليزي وليم سومرست موم، وقد درس الطب أيضا، فلم يعان مشكلة الاختيار التي وصفها تشيكوف، فهو من جهة لم يمارس الطب إلا مدة قصيرة ثم توقف عنها بعد أن نجحت رواياته ومسرحياته نجاحا باهرا. ومن جهة أخرى فإن مسألة الزوجة والعشيقة كانت محلولة عنده، إذ بينت كتب السيرة التي كتبت عنه بعد وفاته أنه كان مصابا بالشذوذ الجنسي، وهو سر سعى للحفاظ عليه في حياته، ثم افتضح بعد موته، وكان أكثر الكتب مجلبة للفضيحة كتابا ألفه ابن شقيقه بعنوان "أحاديث مع العم ويلي".
وفي الوطن العربي نجد عددا غير قليل ممن جمع بين الطب والأدب، لعل من أشهرهم الدكتور عبد السلام العجيلي، الذي حقق نجاحات مرموقة في كلا المجالين. فعيادته في مدينة الرقة تعد من معالم تلك المدينة، ويقصدها المرضى من المناطق القاصية والدانية. وكتاباته الرائعة سمت حتى وصلت إلى مرحلة الشهرة العالمية. على أن مثل هذا الجمع الناجح بين الطب والأدب يظل نادرا.
فالدكتور يوسف إدريس أبدع في عالم القصة والمسرحية والرواية ما لم يبدع مثله في ميدان الطب. والدكتور إبراهيم ناجي وهو الشاعر ذو الشعر العذب، ومؤلف قصيدة الأطلال التي غنتها أم كلثوم، لم ينل في حياته شهرة كبيرة في مجال الطب أو ميدان الشعر، بل إنه صرف جزءا مهما من حياته في مغامرات عاطفية مع الممثلات والفنانات، وإن كانت مكانته كشاعر- لا كطبيب - قد عرفت ونالت ما تستحقه من اهتمام بعد وفاته.
وهنا سأتحدث عن طبيب جمع النجاح في الطب والشعر، وهو من مدينة حلب الشهباء، وإن كنت سأغفل ذكر الأسماء لأن ما أرويه إنما جاءني سماعا من ناقل عن ناقل.
كان هذا الطبيب اختصاصيا مشهورا وذا عيادة معروفة في شارع التل في حلب، والأطباء الناجحون المشهورون في حلب لا يقصدون من مدينة حلب وحدها، بل ومن المناطق المجاورة القريبة والبعيدة بما في ذلك منطقة الجزيرة.
وكانت غرفة الانتظار في عيادته وأروقة العيادة وكل مكان قريب يصلح للوقوف أو الجلوس غاصا دائما بالمرضى المنتظرين، الذين كان يقدم لهم العناية الطبية، ويعالجهم بنجاح وبراعة، وبديهي أن ذلك كان يستغرق جزءا كبيرا من وقته فلا تبقى لديه ساعة فراغ.
وهنا كانت تبرز المشكلة. فقد كان يهبط عليه وحي الشعر فجأة على غير موعد. ويعرف الكتاب والشعراء خاصة أن ثمة لحظات تأتي على غير انتظار تنبعث فيها الرغبة في الكتابة أو نظم الشعر والإبداع، وكأن المرء تحت تأثير مخدر يجعله يحس وكأنه منفصل عن واقعه، وكأن ثمة من يملي عليه الكلمات والجمل شعرا ونثرا.
حتى إن الشعراء الجاهلين كانوا ينسبون هذا الأمر إلى الشياطين، لذلك كانوا يظنون أن لكل شاعر شيطانه.
وعندما كان شيطان الشعر (إن جاز هذا التعبير) يزور صاحبنا الطبيب فجأة كان يضعه أمام أحد خيارين، إما أن يطرد هذا الشيطان أو أن يطرد عشرات المرضى المنتظرين في عيادته قاعدين أو واقفين، ومعظمهم حضر من مناطق قاصية خصيصا للمعالجة لديه.
وكان الحل دائما وأبدا هو أن يرحب صاحبنا الطبيب بشيطان الشعر الذي جلب له الوحي وأن يتخلص من المرضى، وكانت طريقته في ذلك هي أن يحولهم إلى طبيب آخر جديد، مختص الاختصاص نفسه، كان قد افتتح عيادة له في منطقة المنشية في حلب وهي لا تبعد عن شارع التل إلا بضع مئات من الأمتار.
وكان ذلك الطبيب الجديد، يعاني ما يعانيه كل الأطباء الجدد عندما يبدأون عملهم، من عيادة فارغة أفرغ من فؤاد أم موسى، إلى وقت لا يعرف كيف يمضيه فضلا عن أن يستفيد منه. فكان يقعد في عيادته يتأمل جدرانها وسقفها وأرضها ويدرس جغرافيتها، وطريقة هندستها وهو في وحدة دونها وحدة الضائع في الصحراء. وفجأة كان يرى أمامه عشرات المرضى يقصدونه دفعة واحدة وكأنهم سرية جيش مهاجم، ويسألهم ويخبرونه أنهم قد أرسلوا إليه من قبل صاحبنا الطبيب الشاعر، فقد هبط عليه وحي الشعر فكان لابد من أن يهبط فيض الزبائن على هذا الطبيب الجديد.
وتمر الأيام، ويغدو الطبيب الجديد معروفا، ويموت الطبيب الشاعر، وهو الذي كان في حياته مشهورا بطبه وشعره، فإذا بالأيام تمحو شهرته كطبيب فلا يذكر إلا كشاعر، إذ خلده الشعر بما لم يخلده به الطب. تماما كما فعل الأدب مع الكاتب الروسى أنطون تشيكوف، إذ إن كثيرا من الناس في العالم أجمع قرأوا لتشيكوف الروائي، أو سمعوا عنه أديبا، في حين لا يذكر أحد أنطون تشيكوف الطبيب.