من بين كل صيّادي السنّارات المتباعدين المنتشرين على الشطّ, نتجاور أنا وهـو, للـمرة الثـالثـة, بلا كلام, وبلا تعابير على الوجه, تنمّ عن تعارف ما, هذه المرة لا يفصلنا إلا الشق العميق المتصل بتلاطم المياه في الأسفل, وإلا الحدبتان الصخريتان, حدبة الصخرة التي أجلس عليها وهي الأقل تكوّراً والأكثر انبساطاً, وحدبة صخرته المدوّرة الملساء وكأن مياه النهر ظلت تشتغل عليها وتحتّها من بدء الخليقة إلى أن اختصّها له وحده, منذ الصباح وأنا أحسّ بوجوده وحركته المقنّنة كما لم أحسّهما في المرتين السابقتين, بين دقيقة ودقيقة, كنت أنظر إليه بطرف عيني, فأجده واقفاً وعصا السنارة بيده, وعيناه تنظران إلى أبعد من المكان المتوقع للشصّ, جامداً كأنه قطعة من الصخرة التي يقف عليها, فقط عندما يهتز خيط سنّارته يفيض جسده حركة, وتتبادل يداه سحب الخيط حتى تتعلق السمكة أمام عينيه في اضطرابها وغُربتها وخفْق غلاصمها, فيتناولها بيد مدرّبة, وباليد الأخرى يخلّص الشصّ من فمها ويلقيها في السلة القريبة, ثم يطعم سنّارته دودة أرض أراها دوماً تتلوّى وهي بين أصابعه, ويقذف الخيط إلى جوف المياه الساكنة, ويقف يابس الحركات لينظر إلى البعيد حيث تيّار المياه الصاخب. كانت سلّته الصغيرة تكاد تمتلئ عند الضحى, بينما كنت أنا وسنّارتي المستوردة قد حصلنا على سمكتين كانت كبراهما لاتزال تحاول مجّ ماء صار في الماضي... ثمة إحساس بالحنق والغيرة بدأ ينتابني كلما سحبت خيط السنّارة مللاً من الانتظار, وكلما قذفت الخيط بعصبية لا يحتاجها أبداً الصياد ذو الأعصاب الباردة والبال الطويل, غصباً عني رحت أقارن بينه وبيني, أنا أجلس إلى الغرب منه وبذلك أكون أوفر حظّاً, فالنهر يجري من الغرب إلى الشرق, وصخرتي أعلى من صخرته, هكذا كنت أقول لنفسي, وكأنما في العلوّ ميزة, على رأسي طاقيّة تحميني من ضربة الشمس, وعلى عينيّ نظارة تقيهما بريق صفحات الموج عندما تصبح مرايا مؤقتة سريعة الزوال, وثيابي قطنية بيضاء تمتصّ عرقي وتمنع الحرارة من التوغّل في جسدي, وحقيبة حاجياتي يتوافر فيها ترمسان للشاي وللقهوة وفاكهة وخضار منظّفة وسندويشات جبن مشوي, أما هو, فلا متاع عنده إلا السلة التي يضع فيها السمك, وإلا سنّارته ذات العصا الخشبية غير المنتظمة, حتى ثيابه كانت سوداء تلمّ أشعة الشمس من أقاصي ال ضفاف وتكوي بها جلده المتفصّد عرقاً وملحاً تحت الآباط, ومع ذلك, يصطاد ويكاد يملأ سلّته, بينما أنا في حمأة غضبي أسحب الخيط مرّة بعد مرّة, وأهمس من بين أسناني المتكزّزة بالتجديف والسباب.
كنت سأبصق على الفرات وألمّ حاجياتي وأذهب, عندما داخلني شعور موجع من لوْم النفس, أأغار من صبيّ؟!
سحبت خيط السنّارة ووضعتها إلى جانبي, جذبت الطاقية إلى الأمام وتركت النظارة على عينيّ وتمددت على الصخرة, ومنعاً لمرور أيّ شعاع إلى عينيّ المغمضتين, شبكـْت أصابعي وأحطت بهما النظّارة والطاقية التي لبس جوفها وجهي من ما تحت المنخرين إلى أعلى الجبهة, حاولت عبثاً أن أسرح بأفكاري بعيداً عن الفرات وعن الصبي الواقف على صخرته دونما حركة, ألتقط الفكرة, أقلّبها, أرسم وجوه أصدقائي واحداً واحداً وأدخلهم معي في نقاش قضية ما, أمسك همّاً من هموم العمل وأنظر إليه بعيون العاملين معي للإطالة والتسويف, لكن عبثاً, فكلما ذهبت بعيداً, وجدتني فجأة ممدّداً, هنا, على صخرتي وأنا أتخيّله من خلف جفنيّ المغمضين في ظلام النظّارات والطاقية, مركّزاً نظره على نقطة ما منْ قلب التيار السريع للنهر, حتى بلا رفّة جفن لالتماعات صفحة الماء, وعبثاً أيضاً أردت أن أفكر باللاشيء, وهي الحيلة التي أغافل بها القلق قبل النوم, حيث أترسّم صفحة بيضاء, بلا ثنيات ولا تعاريج, يأتيني النوم بعدها كأنه نتيجة لانقطاع إرسال القلق, عبثاً, عبثاً, ودون جدوى, إذْ كان هو وسلّته المليئة بالسمك, وسنّارته العجفاء ذات الخيط الملفوف بضع لفّات, المثبّت بمسمار عُقف بعد الدقّ ومُوّت في جسم العصا, ملء صفحة (اللاشيء) التي التجأت إليها, والتي أصبحت كشاشة عرض تنطبع عليها صورته بثبات ودون أمل في محوها, متيبّساً ونظرته المعلقة بالتيار الجاري تشعّ إيحاء أن ثمة أشياء تصطخب هناك, تحت السطح المندفع مع المجرى, فجأة أتتني فكرة ,دعوته إلى طعامي, كأنني ما كنت في حمى الغضب والحنق منه قبل لحظات. أزحت الطاقية إلى قفا رأسي, ونزعت النظّارة عن عينيّ, واستدرت إليه لتقف الكلمات متراكبة مستعصية في حلقي وعلى لساني بسب مشهده الذي لا يتغيّر, جمود في الهيئة وانغراس للنظرة في القلب الصاخب لتيّار النهر, وكدت أن أنطق كلمات من نوع الأقوال التي تُديرها في أذهاننا, لكننا لا نلفظها, كأن أصرخ به (العمى يضربك أأنت من صخر؟! ألا تحسّ بإنسان على بعد ثلاثة أمتار منك؟ ألا تلتفت إليه؟! ألا تنظر إلى غير الوهم الجاري في قلب النهر؟! ) هكذا أمضيت دقائق أتأمل تخشّبه المُحنق في وقفته الدهرية, أخيراً تكلمت بما يشبه الصياح على أحد في الضفّة الأخرى.
- هيهْ.. أنت تعال افطرْ معي.
التفت نحوي متفاجئاً ومضطرباً.
- لست جائعاً..
- ولكنك جائع.. أنا أرى أنك جائع.. وأرى أنْ لا أكل معك.
كان مشهده المأخوذ بزخْم تأكيدي على جوعه, مشهد المضيّع, الذي لا يعرف ما ضاع منه, كرّر بصوت واهن.
- لست جائعاً..
عرفت من وهن صوته الضّعف الذي بدأ يعتريه وهو يراني أخرج الترمسين والخضار والفاكهة وسندويشات الجبن.
قلت بمكر:
- تعال أشرب كأس شاي على الأقل.
بلا تلكؤ هذه المرّة دبّت الحركة في جسده الفتيّ, غرز عصا سنّارته في شقّ ضيّق على جانب صخرته, وقفز إلى صخرتي, وظلّ منتصباً فوقي كأنه يريد شرب كأس الشاي واقفاً. أمرته:
- اجلسْ.
وبلا طلب لرأيه, وحتى دون أن أنظر إلى وجهه, وزّعت بالتساوي بيني وبينه سندويشتيّ جبن وكأس شاي وتفاحة وثلاثة خيارات لكلّ واحد, وأبقيت الحقيبة مفتوحة بمتناول يده لإشعاره أنه يستطيع أن يأكل أكثر مما هو أمامه.
قال مرتعش الصوت:
- أنا سأشرب الشاي فقط...
قلت:
- ستأكل لأنك جائع. أنا أعرف أنك جائع.
قضمتُ لقمة, وتناولت إحدى سندويشتيّه وقدمتها له بإلحاح وأنا أنظر إلى وجهه ذي الزغب الذي بدأ يغلظ ويسود والذي لم تمرّ عليه شفرة بعد, مدّ يده كما لو كان يقبض على جمرة, وقضم لقمته الأولى التي فضحت جوعه, وجعلت مقاومته تنهار, ومع كلّ لقمة رحت أسأله سؤالاً:
- ما اسمك؟
- عليّ...
- أتأتي إلى هنا كثيراً؟
- كل يوم...
- لماذا, ألست في المدرسة؟
- لا. تركت المدرسة. صيد السمك صنعتي...
- أتعني أنك تبيع السمك الذي تصطاده؟
- نعم...
- أنتم فقراء, أليس كذلك؟
تجمّدت ملامحه, وتوقف عن لوْك اللقمة, وانكسرت نظرته, وأحسست أنا أنني كشفت عن الموضع الذي يخفيه ولا يريد لأحد معرفته, لكنني لم أجد الكلمات التي تعيد له ستر ما انكشف, قلت بلعثمة غريبة عليّ:
- الفقر ليس عيباً.
قال وهو يزدرد لقمته التي لم يمضغها جيداً, ويحدّ عينيه بعينيّ:
- الحمد لله شبعت... نعم نحن فقراء..
- ألا يشتغل أبوك؟
- أبي مات..
- أنا آسف.. يرحمه الله.. أليس لك إخوة يعملون؟
- لا.. أنا أكبر إخوتي.
- وكم أخا لك؟
- أخ واحد ابن سنتين وأربع أخوات..
- من أين تعيشون إذن؟
- الله هو المعطي.. أنا أصيد السمك كما ترى.. وأمي تعمل خياطة للنساء في البيت.
- وهل يكفيكم عمل أمّك وثمن صيدك؟
- الحمد لله..
- بأيّ مرض مات أبوك؟ أم أنه مات موت ربّه؟
- مات بالسرطان.
- لا حول ولا قوّة إلا بالله.. ألم يترك لكم إرثاً؟ أكنتم فقراء في حياته أيضاً؟
فزّ هو ملسوعاً بادي الانزعاج والغضب, لكنه لم يتجاسر على الابتعاد عني, ولا على قول كلمة ناهرة, ربّما لأن عمره وخبرته لا تخوّلانه الجفاء مع كهل, وربما لأنه لايزال ممتناً للقيمات المريرة التي أكلها.
- هل انزعجت؟
- لا وممّ أنزعج؟!
صمتنا نحن الاثنان, وشعرت بحرج شديد كأني أصحو فجأة من غفلة مديدة على وضع شائن بعد أن فطنت إلى أنني باستجوابي له, فضحته, وكنت قاسياً, غير لبق, وتوّاقاً إلى نبش مالا يحق لي مسّه, وبين ارتباكي ورغبتي في فعل شيء يصلح الكسر الذي سببته, أدخلت يدي في جيبي وأخرجت كلّ ما فيه من نقود, وأمسكت باليد الأخرى يده, وبسطتها, ووضعت النقود براحة يده.
- خذْ...
لم يسعفني لساني بأيّما كلمة أخرى تُحدّ من فجاجة حركتي واللهجة الآمرة التي لفظت بها كلمة (خذ), تردد هو مليّاً ناقلاً عينيه بين النقود وبين وجهي في حركات قلقة ذاهلة.
- لن آخذها...
- لماذا؟! أنتم فقراء وهذه نقود ستحلّ لكم بعض المشاكل.
لحظتها بسقتْ عيناه دموعاً سريعة التقاطر كما لو أنها جرفت آخر سدّادة مُعيقة زحزحتُها أنا بكلامي, وأحسست أنني أقع في هوّة من خجل وعجز عن التصرّف, ورحت أقرّع نفسي بعنف وأنا أشعر كما لو كنت قد انقسمت إلى اثنين, واحد ذاهل كان قبل قليل قاسياً جلفاً مزعجاً, وواحد لوّام يدفعني إلى ندم حارق مردّداً (ألم يعدْ على لسانك إلا كلمات الإهانة للصبي.. أنتم فقراء.. أنتم فقراء.. حتى جوعه وظّفته لإرضاء نفسك ولانتقام غامض من ولد لا يملك إلاّ سنّارة يتعيّش منها).
كانت النقود لاتزال في يد الصبيّ, ولايزال هو في دهشته, وفي لحظة حاسمة بدت عليه صرامة لا تليق بوجهه الطفوليّ, انقطع انهمار الدموع من عينيه, ولم يبق فيهما إلا بريق تصميم وثقة, وكأنما أراد تقليد حركتي ولفظي عندما مسك يدي وبسطها وضرب رزمة النقود على راحتها.
- لن آخذها.