يزور أمه على الأقل مرة كل أسبوع بعد إصرارها على عدم الانتقال من بيتها رغم عجزها عن الحركة. يحمل إليها فاكهة يناولها للخادمة التي ترعاها، ثم يدخل حجرتها ويقعد على طرف السرير عند قدميها وهي جالسة محنية للأمام، وقد تراخت يداها في حجرها كجناحي طائر لا يرفرف. يزورها وليس بيديه شيء سوى أن يضحكها، أن يروي لها كل ما يستحضره من مفارقات وطرائف، فإذا لمعت بسمة في عينيها همس لنفسه «الله!»، وحتى حين تلقي بجسدها للخلف وتتلمس برأسها موضع الوسادة وتنعس ولا تعود تنصت إليه، فإنه يمسد جبينها ويحكي، يتأمل جفنيها المغلقين مثل سحابتين على قمرين متعبين، ويواصل الحكي، فقد هجس في نفسه دوما أن للعقل أثناء النوم صحوته الخاصة، مثل حديقة في ليل، تتنفس، تحت ضوء آخر.
دخل حجرتها. جلس. اطمأن عليها. قال لها «صحتك تمام». مازحها بقوله إن منظمي بطولة التنس ينتظرون قرارها إن كانت ستشارك أم لا؟ فحنت عليه بابتسامة خفيفة. حاول أن يطعمها بيده قطعة لحم مسلوق، ثم نهض يدلك قدميها بيديه، وخطرت بباله الحكاية التي وقعت منذ عشرين عاما، وحين ذكرها بها غمغمت بوجه متحير «لا أذكر». ألح على تذكيرها ببعض التفاصيل وهو يضحك. سألته بتشكك «أتختلق الحكايات؟». وسددت نظرة إلى الماضي تستفسر «هل حدث هذا؟». قهقه مؤكدا عبر أنفاسه المتقطعة «نعم». وحدق فيها بعينين لامعتين ووجه متورد من الانفعال.
بشرود وتعب تحاول بما تبقى من يقظة العقل أن تقبض على ظلال تتلاشى في زمن معتم. يؤلمه عجزها عن الحركة. يضع يدها بين كفيه ويضغط عليها بحنان.
يحكي لها..
«منذ نحو عشرين عاما، حين كان طالبا في الجامعة، اعتقلوه مع عشرات من زملائه الآخرين، وبعد أسبوعين فاجأه ألم شديد داخل الزنزانة، فنقلوه إلى مستشفى قصر العيني لإجراء عملية».
بسبب كلمة عملية يتوتر وجهها، يفزع قلب الأم لابنها حتى من أمر وقع له في الماضي ولا تذكره. يطمئنها: «كانت عملية بسيطة. لا تقلقي».
يحكي لها..
«وصل إلى المستشفى بحراسة شاويش، وعلى الفور أخلوا له مكانا في حجرة معزولة في نهاية ممر طويل. دخلها ومن خلفه الشاويش يدير عينيه في المكان يتفحصه، وعندما اطمأن إلى أنه ليس بالحجرة سوى شباك عليه قضبان، جرجر كرسيا وثبته قرب الباب وحط عليه. أما الشاب فأرخى حزام الحقيبة الصغيرة المعلقة على كتفه وتركها على كومدينو، ثم استدار وألقى نظرة على السرير المقابل. رأى رجلا يناهز الأربعين. رأسه مرفوع على وسادة ويداه معقودتان فوق نصف صدره يتنفس بصعوبة ويدير عينيه بقلق بين الشاب والشاويش. أخذ الشاب يتأمله، فقبض الرجل على طرف الملاءة وسحبها مختفيا بالكامل تحتها. اتجه الشاب نحو الشباك الصغير. في الصمت المخيم كانت تصله صافرة حشرجة أنفاس الرجل من تحت الملاءة، ثم سمع سعلة شديدة فالتفت إلى الرجل «سلامتك. تحتاج أي شيء؟». لكن الآخر مال على جنبه ببطء دون أن ينطق فأصبح ظهره للشاب ووجهه للحائط. خمن الشاب أن الرجل يخشى الكلام معه مقدرًا أنه «خطر» مادام ثمة شاويش يحرسه.
هنا تسأله باستنكار وقلق: «أنت خطر ؟!». يقول «نعم». تستغرب «أكنت هكذا من صغرك؟». يقول مبتسما: «طوال عمري كنت شقيا يا أمي». تمط شفتها بعدم تصديق. تسأل «أتختلق الحكايات؟»
يحكي لها..
«بعد ساعة من وصول الشاب أجريت له العملية الجراحية، ومر يوم، والثاني، والثالث، كان الرجل خلالها يطل برأسه من تحت الملاءة ساعة الطعام فقط، يأكل ويرسل للشاويش نظرات متلاحقة مثل دقات «التلكس» بما معناه «كما ترى أنا لا أكلم الشاب ولا علاقة لي به»، وحين ينتهي من الأكل يتنهد بأسى ويختفى تحت الملاءة. ثم جئت أنت..».
هنا تنتبه الأم. تشتعل عيناها بالنظرة الصافية القديمة، كأنما انتفض فيها العصب القوي المرتبط بكلمة «أنت». تفكر «أنا؟ كيف جئت؟».
يحكي لها..
«ثم جئت أنت.. حين فوجئ الشاب صباح اليوم السابع بيد تدفع باب الحجرة، وبأمه واقفة تسد فتحة الباب كشراع مركب. كان الشاب قد تمكَّن من تهريب رسالة لبيته بأنه بمستشفى كذا حجرة رقم كذا مع مريض آخر. لكنه لم يتوقع أن تصل الجرأة بأمه حد زيارته دون أن تبالي بأن الزيارة ممنوعة. نعم. جئت أنت..».
تفتح عينيها بدهشة «أنا؟». يقول «نعم».
يحكي لها..
«كتم الابن شهقة المفاجأة حين رأى أمه واقفة وهي تضم إلى صدرها كيسا ورقيا يبرز من حافته برتقال وأصابع موز، وتقلب عينيها في الحجرة بنظرة من يفتش عن وليده في اللهب».
هنا ترفع رأسها كأنما فوجئت بظهورها في حكايته. تضيق عيناها العجوزتان الصافيتان مثل نسر نسي التحليق. تقول «هل حدث هذا؟». وتسكت مبهورة بامرأة تحاول أن تتخيلها، لأنها لا تتذكرها.
يحكي لها..
«هب الشاويش واقفا يصدها. قالت «جئت أزور سي خلوصي» وأومأت برأسها ناحية سرير الرجل الآخر! تفحصها الشاويش بشك ثم عاد لجلسته وللجريدة التي بيده. توقفت بين السريرين في منتصف الحجرة. ألقت نظرة على ابنها وحبست دموعها. جلست على حافة سرير الرجل الآخر.
وضعت كيس الفاكهة بينها وبينه. خاطبت الرجل لكن وهي تحدق في ابنها «والله يا سي خلوصي العائلة كلها تسأل عنك وفي غاية الشوق». ثبتت نظرتها على ابنها «في غاية الشوق يا حبيبي».
وأدرك الرجل أنه المقصود بـ«خلوصي» وأنه أصبح شريكا في تدبير زيارة ممنوعة، فأخذ يائسا ينظر تجاه الشاويش لينبهه لما يجري. استدارت الأم بجسدها ناحية ابنها «وأختك تبلغك سلامها».
سحب الرجل الملاءة على رأسه واختفى تحتها. أمسكت بالملاءة وأنزلتها بالقوة لأسفل «وأبوك يقول لك إذا احتجت فلوس اكتب له». شد الرجل الملاءة. سحبتها ناحيتها. شدها، سحبتها. وظلا يتجاذبان طرف الملاءة بسرعة وهي تكرر «يا عين أمك يا ضناي». وفجأة نهضت واندفعت إلى سرير ابنها هاتفة «يا حبيبي يا ابني» تضمه وتبكي.
تحدق فيه، تحاول أن تتذكر تلك العاطفة الساخنة، تحاول أن تقتطف باقة المشاعر الحارة، تحاول أن ترى هل يمكن لوهج إحساس انقضى ولا تذكره أن يتقد مجددا لابنها الجالس أمامها الآن؟ هي لا تتذكر، وهو نفسه صار كبيرا ومختلفا. شيء ما يمتد مطمورا بين الأزمنة ولا يندلع. تؤرجح رأسها يمينا ويسارا وفي عينيها أسف منكسر لأنها لا تستطيع أن تتذكر اللحظات التي كان فيها قلبها عامرا بالدفء والشجاعة والحب.
يحكي لها..
«وأفاق الشاويش على ما يجري ربما بسبب كلمة «يا ابني» التي لم تكن لتليق بسن الرجل الآخر، أو بسبب اللوعة في صوتها، فهب من مكانه يجرجرها من كتفها إلى خارج الحجرة. وقفت في فتحة الباب تصيح ناحية ابنها «ولا يهمك. مسيرك تخرج». زعق الشاويش فيها «عيب قوي كده يا ست». خرجت مستمرة في الصياح «عيب؟! ما شاء الله على العيب». وارتها الردهة وصوتها يتردد من بعيد «قال عيب قال». عاد الشاويش إلى مقعده وهو ينفخ «قلة أدب». وعبرت وجه الرجل الآخر سحابة خجل من أنه حاول فضح حيلتها بدلا من أن يداري عليها، ثم قال بصوت منهك «لا يصح ذلك»! حلت الدهشة على ابنها، فهي المرة الأولى التي يسمع فيها صوت الرجل. قال الآخر «أقول لا يصح أن يتفوه الشاويش بمثل هذه الكلمات». وابتسم الرجل «لكن من أين جاءت الوالدة باسم خلوصي هذا؟». وضحك، فقهقه ابنها ومد كفه في الهواء يضرب بها كف الرجل استحسانا. وتبادل الاثنان نظرة طويلة عميقة».
فردت أمه جسدها متعبة فنهض وأحكم الغطاء حول قدميها. سألته بصوت غاف «هل حدث هذا حقا؟». قال «نعم». قالت «وأنا جئت إليك حقا والزيارة ممنوعة؟». قال «نعم». أدارت رقبتها إلى الناحية الأخرى وسرحت ببصرها. «وأنا تشاجرت مع الشاويش فعلا؟». ضحك «نعم»! سألته قبل أن يأخذها النعاس تماما «ألا تختلق هذه الحكايات لتضحكني؟». قال «لا، أنت جئت.. فعلا جئت».
طبع قبلة على جبينها وخرج بهدوء. هبط على درج البيت الذي تربي فيه يسأل نفسه «كيف لحياة الإنسان أن تعيش في ذاكرة أخرى؟! كيف يغدو عطفها وشجاعتها من مشاعر الآخرين وليس من مشاعرها هي؟! ويصبح أجمل ما فيها بيد غيرها؟!».
كانت قد استغرقت في النوم قبل أن تطفئ الخادمة نور الحجرة. في نومها المضطرب رأت أنها كأنما مريضة في مكان مغلق، وأن العطش والخوف يشقان حلقها، وأنها بحاجة إلى شيء ما لا تدري ما هو، ثم إن ابنها ظهر أمامها فجأة، وقف عند باب الحجرة كالشراع، ونظر إليها. ابنها.
يرتجف جفناها سحابتين على قمرين: متى حدث ذلك؟ أين؟
لا تذكر.