لا أدري بالفعل كيف بدأت الحكاية معي.. كيف امتدت جذورها وأينعت في روحي?
ولستُ متيقنة أيضاً.. كيف غسلتني الكتابة بفتنتها ومضت بي?
لا أدري هل ألجُ معكم في كذبتي الكبرى، أم أفتحُ مسارب الكلام الطويل بيننا? كنت أسمع الكثير من الأصوات الغريبة، ألتفتُ، أركضُ صوب أمي أخبرها عن تلك الأصوات التي تأكل أماني، فتُهدئ من روعي..
كنتُ أشعر أني سليلة تلك العوالم الخفية التي تأخذني إلى الأماكن المزركشة بالخوف واللذة والضحك والبكاء.. كبرتُ فكبرت العوالم الخفية في روحي وأزهرت فلا وياسمين وأوقاتا مدهشة.
عندما أشاهد أفلام الكرتون في التلفاز أشعر أنّ الشخوص تفرُ من الشاشة الصغيرة، لأجدها تحيط بي من كل صوب، ورغم معرفتي أنها تفر من رأسي أنا, فإني أشعر بالخوف من أن يكتشف أحدٌ ما قدرتي على ذلك، في بعض الأحيان كنتُ أخبر أمي وكانت تغضب مني وتقول لي:
«لماذا الكذب؟. الكذب حرام». ورغم إدراكي لحقيقة الأشياء, فإن الأمور كانت تختلط عليّ، وأقع دائماً في فخ الكذب.. ذلك الكذبُ اللذيذ.
ذات مرة أخبرتُ أمي أنّ مركبة فضائية ستنزل على سطح منزلنا، ومرة أخبرتها عن الأقزام الصغار الذين تشاطروا معي البطانية بنية اللون، وعندما كنتُ أتمشى في مزرعة جدي الكبيرة كانت الساحرة ذات العباءة السوداء تخرج في هيئتها القبيحة، وتخبرني عن أسرار كثيرة لا يحتملها قلبي الصغير آنذاك..
لكنه لم يكن أكثر من كذب أبيض وحكايات صغيرة للدهشة.. كنت أنام تحت السرير لكي لا يزعجني أحد، أشعل أصابعي كما يُشعل أحدهم مصباحاً، وهو يعي تماماً أن ثمة أماكن عمياء ستصبح لها عينان، ربما أيضاً لسان يتسع للحكي، كل إصبع هو شخصية تقص لي أشياء لا أعرفها، هكذا أجدني أعيدُ تسمية الأشياء من حولي. أتحدثُ إلى النباتات وإلى الحيوانات في «زريبة» جيراننا.. وأسميها فأحبها أكثر.. الحياة كانت تكتسب متعتها من الأشياء التي أبتكرها وحدي ولا أحد يصدقني..
عندما كبرتُ قليلاً بدأت أستغل طاقة الكلام في أن أحكي لإخوتي الحكايات، أذكر جيداً أني كنتُ أستثمر طاقتي عند انقطاع الكهرباء حتى يجتمع حولي إخوتي، والخوف يمد ظله الطويل على قلوبهم الصغيرة، فأرشهم بفتنة الكلام. يفتحون فمهم وهم يرقبونني بدهشة وفضول كبير يزيد من قدرتي على الاستمرار في حياكة التفاصيل بشهية مفرطة..
كنتُ أعشق ابتكار الكذب، وأعتقد أنّه الرئة التي تمكنني من التنفس، والتحليق عالياً في تلك السماء التي تخصني وحدي، لكن كان ذلك على حساب الكثير من الأشياء التي أخسرها من دون أن أعي.
كنتُ لا أطيل البقاء مع الفتيات في المدرسة، فقط أكتفي بعزلتي الخاصة لأشبع تلك الحاجة الملحة بالكلام إلى شخوص أخرجها من جعبة الذاكرة.. أفرح معها.. أبكي معها.. أشاطرها قصصا لا أدري إلى الآن كيف يمكن لها أن تروى بذات الخفة والعفوية.
هكذا كنتُ ألوذ بسري نحو وحدة مفرطة، وكتمان حذر. تلك هي متعتي السرية الانفرادية.. لعبتي التي تستيقظ على ذاكرة خصبة، وتفاصيل تنمو بامتداد الوقت وفصول السنة.
كبرتُ وأنا بعد لا أجيد تفسير علاقتي بالثرثرة، والكذب. كل يوم تتكشف طاقتي الخفية في ألعاب تبدو كالسحر، لدرجة أني في بعض الأحيان أقع في فخ الخوف مني، ومن أفكاري وحتى من جسدي الذي بات مدربا على الاستجابة إلى ما تمليه الذاكرة..
عندما بلغتُ سن المراهقة بدأت أكاذيبي تؤلمني كثيراً، بدأت الأشياء تختلط عليّ، لا أعرف الحقيقة من الوهم، أصبحت تلك التسلية المبهجة لا تجر سوى الألم والخوف، فتحتُ عيني فجأة ووجدت نفسي وحيدة من دون أحد.. وكأن كائناتي ضمرت أو أصابها العطب..
لم أكن قادرة على أن أخبر أحداً أني متعبة من كذبي، ومن وحدتي، وأنني مللتُ تحريك تلك الدمى بخيوط خفية في الخيال، لم يمنحني أي أحد أذنه لأخبره الحكاية كاملة، فقط كان هنالك جدي يأتي في المساء ليقرأ عليّ القرآن، ويبصق مراراً في وجهي ليطرد ذلك الكائن الذي يشوشُ أفكاري، وأنا أندفع في البكاء، يقرأ في «النيفيا» التي أدهن بها جسدي بعد الاستحمام، ووجهي قبل الذهاب إلى المدرسة، يقرأ في البخور الذي تبخر به أمي المنزل لتطرد الكائنات الغريبة التي سكنته وهي تتعوذ من الشيطان، وتقرأ بعض الآيات التي حفظتها عن جدي، لكن الجني لم يخرج من جسدي ومن أفكاري، ظل يبني الحواجز الكبيرة بيني وبينهم.
لكن كان ثمة شخص كبير ومتفهم، كان مستعدا لأن يستمع إليّ، أن يفتح فمه بدهشة، من دون أن يفر مني راكضاً ومعلنا صدمته الكبيرة بي، كان صديق والدي.. يعد القهوة ويجلس بهدوء ليكلمني، كنتُ أخبره بكل التفاهات التي يصنعها كذبي، وكان يضحك ويقول لي: «هذا خيااال، هذا ليس كذباً».
كنتُ أخبر والدي دائماً أن يأخذني إليه، لأني أرتاح لكلامه الجميل، كان والدي يشعر أن لذلك الرجل تأثيراً سحرياً عليّ، وأني منذ أن بدأتُ في التحدث إليه بدأتُ التعافي من اكتئابي الحاد، اسمه محسن وكان لا ينتمي لهذه البلاد التي أعيش فيها، تلك التي لا يمكنها أن ترى الأمور إلا من مرآة السحر والحسد.
محسن قال لي: هذا الكذب هو طاقة الكتابة، اكتبي، أنت مشحونة بالحكايات الكثيرة، وبالثرثرة، ستظل الأكاذيب تلاحقك كاللعنة إلى أن تسقط منك على الورق..
هل كان محسن يقول الحقيقة.. هل كانت أكاذيبي مشاريع كتابة؟ لكن لمَ لم أفكر قبلا بأن أكتب أكاذيبي!!
قال لي محسن وهو يبتسم بوجهه المتفتح بالبياض: عندما تخطر بذهنك أي كذبة اكتبيها، وانشريها ودعيني أراها.
كان والدي كلما عاد من الإمارات أحضر لي معه مجلة ماجد، كنت أقرأها بفرح غامر، وكنت أكتب القصص وأرسلها إليهم من دون أن ينشروها، وقتها تأكدت أن محسن كذب عليّ فأنا لست أكثر من طفلة تكذب، وأن مجلات الأطفال لا تعترف بخيالي المحلق.
أرسلتُ ذات مرة لمجلة ماجد رسالة تحت عنوان: «عندي مشكلة»، وشرحتُ لهم أني أحب الكتابة ولكنهم لا ينشرون لي كتاباتي فنشروا رسالتي كما هي وكتبوا تحتها رداً لطيفاً: «يؤلف القصص لدينا مختصون وليس الأطفال.. استمري بالكتابة وبتنمية موهبتك»، ورغم أني لم أكن أنتظر رداً كهذا إلا أني فرحت كثيراً، لأن ذلك كان أول ما نشر لي في حياتي.. تصوروا أنّ أول ما نشر لي كان في صفحة «عندي مشكلة».. المكان الذي لم أتوقع يوماً أن ألجأ إليه، وأن يحمل اسمي.
بعدها كتبت نصاً قصيراً وأرسلته إلى جريدة «الوطن» في السلطنة، وتلقيت اتصالا من ابن خالي بعد أسبوع بأن المادة نشرت، طار قلبي من صدري، رقصتُ عالياً، وعندما أحضر لي الجريدة قصصتها وألصقتها في دفتر خاص، وقررتُ أن آخذها إلى محسن. ألححتُ طويلاً على والدي لكي نذهب إليه، وكان والدي مستغرباً، دخلت إلى مكتبه وأريته تلك القصاصة، ابتسم محسن بفرح.. كان بنفسه غير مصدق، لاحظتُ ذلك وهو يدقق في قراءة اسمي مراراً بعدها قال لي: ألم أقل لك، أنت مشروع كاتبة.. إنه الكذب الخلاق..
بدأتُ بكتابة الروايات البوليسية الطويلة متأثرة بقراءاتي آنذاك لروايات الإثارة لـ أجاثا كرستي، ونبيل فاروق، ولكن كان طول كتاباتي سبباً رئيسياً في عدم قدرتي على نشرها في أي مكان. لذا لجأت إلى القصة القصيرة..
عندما سافرت إلى سورية للدراسة بعد الثانوية العامة، اكتشفتُ مناخات أخرى للكتابة متأثرة بتجارب زملائي في الاتكاء على اللغة وفي كتابة النص خارج التابوهات الاجتماعية الضيقة. كانت مرحلة دراستي في الجامعة، واحتكاكي بالطلبة العرب، وبالمواقع الإلكترونية قد منحتني أصدقاء من مختلف الدول العربية، بالإضافة إلى القراءة والمناقشات الجريئة التي جعلت شخصيتي الكتابية أكثر تبلوراً، ونضجاً، وبعد أربع سنوات من الدراسة عدتُ إلى السلطنة لأجد أن الأجواء فاترة قليلاً، ولا تلائم تلك الفراشة التي تعودت الرقص بداخلي، ولكن بدأتُ الاعتياد، ثم الانخراط في الوسط الثقافي العماني لأعرفه عن قرب..
بدأتُ النشر في الملاحق الثقافية، وفي مجلة نزوى الثقافية، وفي صحف ومجلات عربية أيضاً.. كما أنّ عملي في جريدة عمان تحديدا في القسم الثقافي ساهم كثيرا في خلق علاقات استثنائية مع القراءة والكتابة والكتاب.. ثم بدأ تفكيري الجاد بجمع قصصي وطباعتها.. فخرجت عام 2006 مجموعتي «نميمة مالحة»، وفي 2009 مجموعتي «ليس بالضبط كما أريد»، وفي مغامرة الكتابة في الأشواط الطويلة كتبتُ روايتي الأولى: «الأشياء ليست في أماكنها».. ولكن القصة القصيرة كانت ولاتزال تحتل مكانا أثيرا في روحي، فعاودتُ هذا العام نشر مجموعتي القصصية الثالثة: «الإشارة برتقالية الآن»..
وكم أنا مدينة اليوم لكذبي الأبيض، وللجنية الطيبة التي استيقظت في روحي، ولم تطردها تعاويذ جدي.. هكذا ظلت تُحرض الأفكار لتنمو أعشابها في الذاكرة، وعلى امتداد الأوراق.