في لوحة الشعر الفلسطيني تبدو تجربة الشاعر هارون هاشم رشيد وكأنها لوحة فريدة من نوعها، بالرغم من اشتباكها مع بقية اللوحات الشعرية الفلسطينية في ألوان العلم الوطني الجريح. فهارون هاشم رشيد، الذي مازال يعيش تدفقه الشعري حتى هذه اللحظة، شهد تحولات القصيدة العربية طوال القرن الماضي، وأخذ من معطيات تلك التحولات ما ناسب طبيعة موهبته وحجمها، رافضا ما عدا ذلك بإصرار تقليدي عجيب.
ولد هارون هاشم رشيد في غزة العام 1927م، وفي مدارسها تعلم إلى أن حصل على شهادة المعلمين العليا التي أهلته للعمل في التدريس، لكنه بعد ست سنوات قضاها في تلك المهنة انتقل للعمل الإذاعي رئيسا لمكتب إذاعة صوت العرب المصرية في غزة، وبقي في تلك الوظيفة معبرا عن هواه الناصري من خلالها، وهو الهوى الذي لم يتخل عنه حتى بعد أن ترك الإذاعة ليعمل مشرفا على إعلام منظمة التحرير الفلسطينية في قطاع غزة حتى العام 1967م، حيث انتقل إلى القاهرة رئيسا لمكتب منظمة التحرير فيها، وبعدها عمل حتى تقاعده في جامعة الدول العربية.
وإذا كان الشاعر قد تقاعد من عمله بعد عمر وظيفي طويل فإنه ظل شاعرا دائما منذ أن كتبت قصيدته الأولى وهو على مقاعد الدراسة من دون أن يجرؤ على النشر آنئذ.
عايش الشاعر المأساة الفلسطينية منذ البداية، وكان شاهدا حيا على تتابع مراحلها المشبعة بالدراما والتي أسلمت الشعب الفلسطيني من نكبة إلى أخرى. وفي كل مرحلة من تلك المراحل كان الشاعر يراقب الأوضاع ويشارك فيها أحيانا، لكنه دائما كان يحتشد شعرا ويحاول أن يعيش فصول المأساة عبر الوزن والقافية والتفعيلة، فكانت قصائده التي تدفقت لتصور ما يحدث وترسم ملامح المهجرين وتبشر بالعودة، وتصر عليها، فلم تكن العودة مجرد حلم بالنسبة لذلك الشاعر الحالم، بل حقيقة مؤجلة حتى حين طال الزمان الفلسطيني أو قصر.
وفي عناوين دواوين هارون هاشم رشيد الشعرية الكثير مما يشي بأفكاره المنتشية بفكرة الوطن وحلم العودة إليه بالضرورة، فقد صدر ديوانه الأول بعنوان «الغرباء» العام 1954 قبل أن يتبعه بعدد كبير من الدواوين، منها: «عودة الغرباء»، و«غزة في خط النار»، و«أرض الثورات»، و«حتى يعود شعبنا»، و«سفينة الغضب»، و«رسالتان»، و«رحلة العاصفة»، و«فدائيون»، و«مزامير الأرض والدم»، و«الرجوع»، و«مفكرة عاشق»، و«يوميات الصمود والحزن»، و«النقش في الظلام»، و«المزّة غزة»، و«وردة على جبين القدس»، وغيرها.
لكن الشعر لم يكن كل شيء، فقد تداخلت الدوائر الإبداعية حول موهبته في الكتابة، فكتب عددا من المسرحيات الشعرية التي تحركت شخصياتها على عدد من المسارح المصرية بتوقيع فنانين كبار، وكتب روايات بالإضافة إلى بعض المسلسلات والأفلام التلفزيونية، وقد تمحورت كل هذه الإبداعات المختلفة حول قضية الشاعر وقضية شعبه المركزية، وكانت فلسطين هي الاسم والعنوان، وهي البداية والنهاية، وهي نقطة الانطلاق ومسك الخواتيم دائما.
ظل هارون هاشم رشيد مخلصا لموضوعه الأثير حتى بعد أن وجد الكثيرون حوله أسبابا فنية وإنسانية للتحول الجزئي عن ذلك الموضوع تحت وطأة المعنى الشعري الخالص واشتراطاته الفنية المحض. وقد رفض الشاعر أن يلبي رغبة الجمهور في أكثر من أمسية شعرية في أكثر من مدينة عربية بقراءة بعض من الشعر بعيدا عن فلسطين وقريبا من القلب، فليس سوى فلسطين قلبا للقصيدة لدى هارون هاشم رشيد.
يصفه البعض بأنه شاعر العودة لكثرة ما وردت تلك المفردة واشتقاقاتها اللفظية ومترادفاتها في قصائده ومسرحياته، إشارة إلى إيمانه بحتمية العودة إلى الوطن كهدف فلسطيني أول وأخير.
ويبدو أن جذور هذه المفردة المضمخة بعطر الحنين للوطن والإيمان به تعود إلى التصاق الشاعر بقضية اللاجئين في الفترات المبكرة من عمره، فقد عايش النكبة الأولى على أرض فلسطين وعاش مأساة اللاجئين حيث كان في مدينة غزة وكان أحد الشباب الذين تطوعوا للمساهمة في نقل الأسر الفلسطينية التي اضطرت للجوء وكانت تصل إلى تلك المدينة عبر مراكب بدائية ليقيموا في معسكرات بائسة للجيش البريطاني. وقد أثرت تلك الأوضاع كثيرا في نفس هارون هاشم رشيد الذي كان للتو قد اكتشف موهبته الساحرة وبدأ رحلته التي طالت بعد ذلك مع الشعر، فكتب قصيدة بعنوان «مع الغرباء» صور فيها بعض ما رأى، لكن بقية صور تلك المأساة ظلت تحتل الحيز الأكبر من ذاكرة الشاعر، فعلى الرغم من أنه أودعها في جل قصائده فإن في أحاديثه وتصريحاته ما يفيد بالكثير المختبئ منها في تلافيف الذاكرة، وأنه سيظل يعمل على إنتاجها متى ما استطاع إلى ذلك سبيلا، شرط أن يكون ذلك السبيل سبيلا كلاسيكيا يجري مجرى القصيدة العمودية التي كتب وفقا لأوزانها وقوافيها جل ما كتب من شعر، أو قصيدة التفعيلة الذي صار أحد فرسانها في ساحة الشعر الفلسطيني.