هل عصفت بها الإنترنت للأبد؟.. رسائل البريد.. فن البوح الفكري والعاطفي
في الفيلم الأمريكي الكوميدي الرومانسي «وصلتك رسالة بريد» أو You ve Got Mail، نرى بطلي العمل توم هانكس وميج رايان وهما يتبادلان الرسائل عبر بريدهما الإلكتروني، حيث يجلس كل منهما إلى جهاز الحاسب الشخصي، ليكتب ويرسل رسالة للطرف الآخر، ثم يتلقى الرد في ثوانٍ. وتتوالى الرسائل، على مدى أيام، حتى يقع كل منهما في غرام الآخر قبل أن يكتشفا أنهما غريمان ومتنافسان، فالأول مليونير يمتلك مكتبة ضخمة شاسعة ويريد أن يحتكر سوق بيع الكتب في المنطقة على حساب المكتبات الصغيرة وبينها المكتبة الصغيرة التي ورثتها ميج رايان عن أمها. وحين نتأمل اللقطات التي يكتب فيها كل منهما رسالته ويرسلها ثم يتلقى الرد مكتوباً على شاشته بعد لحظات نكتشف كيف أن هذا الواقع الافتراضي الجديد قد أحدث ثورة زمنية غير مسبوقة من جهة، وعصف أيضاً على ما يبدو بفن جميل كان الوسيلة الوحيدة للتواصل بين البشر لقرون قبل أن تعصف به الإنترنت وإلى الأبد!
بداية ينبغي تأكيد أن الوسائل الإلكترونية الحديثة للتواصل على شبكة الإنترنت وفي مقدمتها البريد الإلكتروني E-mail ثم ما شابهها في وسائل الاتصال الهاتفي الحديث ممثلا في النصوص المكتوبة Text Messages أحدثت ثورة في مفاهيم الاتصال بين البشر، وغيرت في مفهوم الزمان والمكان، بضغطهما إلى أقصى حد ممكن، مما أشاع مصطلح «العالم أصبح قرية صغيرة».
فقد أصبح بإمكان صديقين لم يلتق كل منهما الآخر لسنوات أو حتى بسبب انتقال كل منهما للعمل في دولة أو قارة أخرى أن يتواصلا بشكل يومي سواء بالاتصال الهاتفي النصي، أو البريد الإلكتروني، أو الوسائط الاجتماعية الجديدة مثل تويتر وفيس بوك وصولا إلى التطبيقات الجديدة للتواصل الشخصي المجاني مثل WhatsApp، أو Viber، أو سواهما. والأمر نفسه بالطبع ينطبق على أي فردين أو أكثر تربطهما صلة قرابة أو ارتباطات عائلية أو حتى زمالة وعمل، مما أدى إلى شعور الجميع في أرجاء العالم اليوم أنهم يعيشون في مجتمع افتراضي يقرب بينهم كثيراًً ويلغي الإحساس بالمسافات، خصوصاًً أن أغلب وسائل الاتصال الافتراضية اليوم أصبحت مزدودة بإمكانيات إرسال الصور أو اللقطات المصورة وحتى التصوير اللحظي في أثناء التحدث عبر برامج الاتصال مما يجعل الأفراد بالفعل يشعرون أنهم تقريبا يعيشون مع بعضهم البعض.
الدردشة صوتاً وصورة
بل إن بعض برامج التواصل المعروفة بالدردشة Chatting توفر إمكانيات تبادل الحديث بالكتابة أو بالصوت، ولفترات طويلة، تتم بين أشخاص يعيشون في أماكن بعيدة أو حتى في المدينة نفسها لكن لا تتاح لهم فرصة اللقاء بسهولة، وأحياناً، كما نعرف جميعا، تتم بين أشخاص لا يعرف بعضهم بعضاً من الأساس، ويكون الاتصال هنا بغرض التعارف.
وأسفرت هذه الوسائل الجديدة للتواصل البريدي الإلكتروني عددا من المزايا منها مثلا: إمكانية إرسال رسالة إلى عدة متلقين، أو إرسال رسالة تتضمن نصاً صوتياً أو فيديو أو صوراً أو حتى خرائط.
بالإضافة إلى السرعة في إرسال الرسائل حيث لا تستغرق إرسال الرسالة بضع ثوانٍ فقط لكي تصل إلى المرسل إليه، بل وفي حال عدم وصول الرسالة فإن البرنامج يحيط المرسل علماً بذلك.
يمكن للمستخدم أن يستخرج الرسائل من صندوق البريد عن طريق برنامج البريد الذي يمكن المستخدم من مشاهدة الرسائل وبناء على رغبته إذا شاء أن يرسل جواباً لأي منها، وعندما يبدأ طلب بريد الإلكتروني يتم إخبار المستعمل بوجود رسائل بالانتظار في صندوق البريد عن طريق عرض سطر واحد لكل رسالة بالبريد الإلكتروني.
كان وراء هذا التطور الكبير في مفهوم التواصل البريدي بين البشرية جهود خارقة بذلتها مجموعة من المختصين في علوم الاتصال والحاسب تعود الى مطلع ستينيات القرن الماضي، وفي بداياته كان التراسل الإلكتروني بالبريد يستوجب دخول كل من الراسل والمرسل إليه إلى الشبكة في الوقت ذاته لتنتقل الرسالة بينهما آنياً، كما هو الحال في محادثات التراسل اللحظي المعروفة اليوم، إلا أن البريد الإلكتروني لاحقا أصبح مبنيا على مبدأ التخزين والتمرير، حيث تُحفظ الرسائل الواردة في صناديق بريد المستخدمين ليطلعوا عليها في الوقت الذي يشاءون كما نعرفه اليوم.
بدايات البريد الإلكتروني
بدأت شبكة الإنترنت في عام 1969 عندما قررت وزارة الدفاع الأمريكية إنشاء وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة (ARPA)، وكان هدفها حماية شبكة الاتصالات أثناء الحرب، ونتيجة ذلك ظهرت شبكة ARPA net ، وتطورت الإنترنت خلال الثمانينيات بصورة سريعة؛ ففي عام 1983 انقسمت شبكة ARPA net إلى شبكتين مختلفتين هما: شبكة ARPA net وخصصت للاستعمال المدني، وشبكة Mail net التي خصصت للاستخدام المخابراتي العسكري، إلا أنهما كانتا متصلتين بحيث يستطيع مستخدمو الشبكتين من تبادل المعلومات فيما بينهم.
وظهرت بدايات ما أصبح لاحقا البريد الإلكتروني على شبكة «أربانت» Arpanet، وتطوّر في مراحل عديدة كان من بينها أن أرسل راي توملينسون سنة 1971 أوّل رسالة تستخدم الرمز «@» للفصل بين اسم المستخدم عنوان الحاسوب كما استقر عليه الوضع اليوم. ومع هذا لا يوجد مخترع فرد للبريد الإلكتروني إذ أنه تطوّر في خطوات عدة أسلمت كلاً منها إلى التالية، كما يشير موقع ويكيبديا الموسوعي.
وبالرغم من المزايا العديدة التي حققتها ثورة الاتصالات البريدية والنصية الإلكترونية، فإنها في المقابل قضت على تراث عريق وطويل لما عرف بفن الرسائل، والذي بدأ بالفكرة التقليدية التي تتعلق بتكاتب الأشخاص وإرسال رسائلهم عبر الوسائل التقليدية المختلفة، وأحدثها في عصرنا هي وسائل النقل البحري والجوي إضافة إلى الوسائل البرية مثل السيارات والقطارات.
اختفاء ساعي البريد
اختفت تدريجياً صورة رجل البريد أو ساعي البريد الذي كان أحد فرسان فن الرسالة بوصفه الوسيط الذي يقوم بالخطوة الأخيرة المتمثلة في ضمان وصول الخطاب البريدي إلى صاحبه على العنوان المدون على الرسالة أو الظرف إذ تقلصت أعداد المراسلات البريدية الورقية التقليدية بشكل هائل مع اندلاع ثورة الاتصالات الحديثة، وأصبحت مثل هذه المراسلات مقصورة على المراسلات الرسمية أو تبادل الوثائق أو الأوراق الرسمية.
كما يجب الأخذ في الاعتبار أنه حتى الوثائق الرسمية اليوم مثل العقود والشهادات الحكومية أو التجارية الرسمية قد يتم مسحها ضوئيا وإرسال نسخ منها على البريد الإلكتروني كوثائق رسمية، وكذلك الأمر بالنسبة للصور الشخصية الرسمية. وفي حالات عديدة يمكن اعتبار الرسالة النصية على الهاتف اليوم وثيقة رسمية. فهي قد تعتمد كوثيقة مشابهة للفاتورة في حالة السداد النقدي كإثبات لسداد أقساط أو مستلزمات من أي نوع.
وحتى في الكثير من الجوانب الاجتماعية اليوم مثلا يمكن أن تتخذ ذريعة لإثبات حالة مثلاً حين يقوم أحد الأزواج بتطليق زوجته عبر رسالة نصية أو غير ذلك من أمور شبيهة. لكن في مقابل هذه المزايا ماذا فقدنا؟ من المؤكد أننا فقدنا الكثير؛ مثل الحميمية والعمق والحكي واستدعاء الذكريات.
الحنين إلى فن الرسالة
بمعنى آخر وكما عبر عنه يوما أحد الأصدقاء على النحو التالي «علينا أن نشكر الإنترنت، فقد أتاحت لنا أن نجد بعضنا بعضاً بعد أن فرقت بيننا الأيام والجغرافيا، واليوم أصبحنا نتواصل بشكل يومي، لكن المفارقة هي شعوري الآن أنني أفتقدك أكثر مما سبق»!
دعونا نستعد الزمن الذي كنا نتبادل فيه الرسائل البريدية: كانت زيارة ساعي البريد مفاجأة مبهجة لأنها تعني أنه يحمل رسالة من قريب أو صديق، وهذا في حد ذاته كان له معنى مهم، ولعلنا أيضاً نتذكر كيف كنا نتأمل المظروف قبل فتحه لنعرف أو نتوقع مرسله، ونتأمل شكل المظروف والكيفية التي كتب بها الاسم والعنوان، وألوان طوابع البريد.
ثم تبدأ رحلتنا مع الرسالة نفسها التي، بالإضافة لموضوعها، كانت كثيراً ما تتضمن قدراً جمالياً يتمثل في نوع الورق ولونه، وإذا ما كان ورقاً عادياً بلون واحد أم يتضمن زركشات أو زخارف، وكانت تتسم بقدر كبير من الحميمية لأنها تتضمن أسئلة عن أحوال المرسل إليه وظروف حياته، وتعبيراً عن الشوق والافتقاد، بخط يد مرسل الرسالة، كما تتضمن أخباراً عن المرسل، وحكايات، مقتضبة أو مسهبة، عن ظروف حياته أو عما يعانيه. كما قد تتضمن أفكاراً عميقة، خصوصاً لو أنها رسالة بين صديقين يمتلكان قدراً من الثقافة، بل إن هناك تراثاً كاملاً من المدونات والكتب التي تضمنت تجميعا لرسائل المشاهير من الكتاب والعلماء في الغرب وفي عالمنا العربي عدت بمنزلة وثائق اجتماعية وفكرية. لأن الرسالة في معناها التقليدي كانت وسيلة لترتيب الأفكار والتعبير عنها، والبوح بالمشاعر الذاتية، ربما بشكل قد لا يتاح في ظروف المواجهة العادية بين الشخصين موضوع الرسالة.
أما الرسائل العاطفية، فهذه ربما تحمل لوناً من ألوان الاعتزاز الشديد لدى من يحتفظ بها، فهي وسيلة المحب للتعبير عن مشاعره، وتضمين الرسالة كل ألوان المحبة والتعبير عن اللوعة من الفراق، والأحلام والآمال باللقاء، وخطط المستقبل، أو حتى التعبير عن الألم والحزن في حالة الرسائل المتبادلة بين عاشقين تبدو علاقتهما كأنها تسير في نفق مسدود.
رسائل مصطفى ذكري
في كتابه السردي «الرسائل» يكتب الكاتب مصطفى ذكري «أكتب إليكِ لسببٍ ما، الأسباب كثيرة ومنها على سبيل المثال، لا الحصر، التعب، الوحدة، الحبّ، الصداقة، لا أعرف. وليس هذا الترتيب وفقاً لأولويّة أو لأهميّة، بل وفقاً لطبيعة الكلمات في لغةٍ، وحتمية مجيئها في ترتيب وتتابُع قد لا يقصده من يستعمل الكلمات، ولهذا لزاماً عليه أن يكون بين نارين، فمن جهة يبحث عن الكلمات التي تؤدّي المعنى بعد شفط دهونها وشحومها، ومن جهة أخرى ينفي مواضعاتها المادية، وهو بهذا يبتعد عن مرماه- لكني أعرف- بخليط من الحدس والفراسة والبصيرة، وهي ثلاثية لا أُحسدُ عليها، لأنها توجد لديّ فقط في أمور سلبية، أي عندما تكون موجّهة لي بعداء وكأنّها أداةُ هدمٍ أنّ سبباً واحداً هو السبب الرئيسي الذي منه خرجت الأسباب جميعا، إلا أنني لا أستطيع تأكيده لبُعده في زمن ماضٍ حتى قبل تعارفنا، وأرجو ألا تأخذي هذا حجة ضدي كأنك تقولين: الرغبة لديه عارية من موضوع تتّجه إليه- على اعتبار أن الرغبة سببٌ آخر من الأسباب التي لا حصر لها- وما أنا إلا امرأة في حياته، وكأن لأخرى أن تكون مكاني، وأنّ كلمةً مثل الحب يضعُها على قدم المساواة مع كلماتٍ مثل التعب والوحدة والصداقة. في النهاية لك أن تقولي بسبب فإذا بالأسباب جميعا حاضرة».
وهي فقرة مجتزأة من بدايات الكتاب وفيها يبدو كيف أن الرسالة في حد ذاتها قد تكون سببا لبوح لا يُعلم الغاية منه على وجه التحديد، لكنها تتضمن وتحمل اكثر بكثير مما قد يكون مقصودا منها.
لهذه الأسباب جميعا جسدت الرسائل دوما جزءاً من تراث الأشخاص الذاتي الحميم، تجدهم يحتفظون بها في صناديقهم الخاصة وفي الأماكن التي يحتفظون فيها بما يمثل ذكرياتهم الشخصية، وكثيراً ما كان البعض خصوصاً من الجيل القديم حين يتوفون يرث أبناؤهم متعلقاتهم وبينها رسائلهم التي كانوا يحتفظون بها. ولهذا يقال اليوم مثلا إن الرسالة الإلكترونية التي يتلقاها الفرد بمنزلة شيء جميل أما الرسالة البريدية فهي هبة الصداقة أو هديتها.
وصحيح أن الأجهزة الحاسبة اليوم تتضمن جميعا ألوانا شتى من أنواع الخطوط، بالعربي واللاتيني، وبينها خطوط تتسم بالجماليات الشديدة وبالتميز، ويمنح استخدامها لونا من الحميمية والجمالية والطابع الشخصي، لكنها رغم ذلك تظل دليلا دامغا على طابعها الآلي أو النمطي، وخلوها من البصمة الشخصية التي يمنحها خط يد الشخص على الورق أيا كانت درجة جمال خطه أو وضوحه.
أدب الرسالة
وربما لذلك أصبحت الرسائل موضوعا للعديد من الكتب الأدبية وخصوصاً فن الرواية، والتي عرف بها الكاتب عبدالحميد الكاتب، أو قصص من بين قصص الكاتب إدوار الخراط مثلا وعنوانها «رسائل لن تصل»، كما أن الكاتب المصري مصطفى ذكري له كتاب كامل بعنوان «الرسائل» يتضمن نصاً أدبياً رفيعاً قوامه رسالة مرسلة من الراوي إلى حبيبته وتتضمن أفكارا وخواطر وهواجس وأحلاماً ورؤى تجريدية، وهو النص الذي سبقت الإشارة إليه، وكذلك رواية الكاتب الكويتي الأخيرة إسماعيل فهد إسماعيل «العنقاء والخل الوفي» هي في جوهرها رسالة من الراوي، وهو شخص «بدون» أي لا يحمل جنسية محددة وهو من أهل الكويت يقرر أن يكتب لابنته رسالة يحكي لها كل شيء عن سيرته وسيرتها، حيث إنه لم يلتق بها البتة. وفي الأدب العالمي العديد من النماذج لأدب الرسائل. أو لنصوص اتخذت من الرسائل وسيلة فنية لكتابة روايات أو قصص، وبينها مثلاً نص الكاتب التشيكي الأشهر كافكا الذي نشر بعنوان «رسائل إلى الوالد».
إن التفكير في أن جيلاً جديداً ينشأ اليوم معتاداً على الثقافة الإلكترونية التي تحيط به من كل صوب وحدب، ممثلة في وسائل الحاسب الآلي والهواتف المحمولة وأجهزة الآي باد وسوى ذلك تجعلنا نفكر أن هذا الجيل ربما لن يكتب يوماً رسالة بخط يده، ولن يعرف، وربما لن يحتاج إلى فكرة الرسالة بالطريقة التقليدية - تبدو فكرة مخيبة للآمال، مع ذلك فهناك اليوم مواقع إلكترونية وهنا المفارقة- تحاول أن تستعيد فن الرسائل وأن تبعثه من الموت بالحديث عن أهمية الرسائل وعن جمالياتها وخبرات القراء في هذا المجال ولعلها تستطيع أن تبقيه حياً على الأقل بدلاً من أن نجده يوما وقد اندثر.
إبراهيم فرغلي
مجلة العربي ابريل 2013