مختارات من:

أسئلة من أجل المستقبل

محمد حافظ دياب

يمثل الاهتمام بالمستقبل اليوم أحد مجالات المعرفة, فالتنبؤ به لم يعد ضرباً من الادّعاءات ولكنه عملية بناء تعتمد على تحليل الحاضر قبل القفز للمستقبل.

منذ القديم, وعلى امتداد الأزمنة, صاغت الجماعة الإنسانية محاولات للتعرف على المستقبل, اقتصرت على وسائل من المعرفة الشعبية كالتنجيم والكهانة, وتغيّت استطلاع ما يخبئه القدر لأعضاء هذه الجماعة.

أما اليوم, فالاهتمام بالمستقبل أضحى يشكّل أحد مجالات المعرفة العلمية, بمبادئها وأساليبها. يفسره تقدم هذه المعرفة, وتنامى الوعي الحاد بالواقع, وما يحوطه من مشكلات الطفرة التكنولوجية, والتسلح النووي, والانفجار السكاني, والتلوث البيئي, وهيمنة القطب الأوحد, والصراعات الإثنية, والأمراض المستعصية والتلاعب البيولوجي والسيكولوجي بالكائن البشري, وكلها حالات ضاعفت من الواجب الملحّ الذي يتعين بمقتضاه اتخاذ قرارات مرتبطة بالمستقبل.

وهذا الاهتمام يستهدف تصوّر الأوضاع المحتملة, من منطلق أنها ليست مجرد ادّعاءات تعتمد على أحلام ملهمة أو رؤى ظنّية, بل عملية بناء بدائل نابعة من تحليل الحاضر واتجاهات تطورّه.

ولكن, ما المسار الذي اتخذه الانشغال العلمي بالمستقبل?

لعل عام 1949 يمثل بدايته الصحيحة, حين ابتكر المؤرخ الألماني أوسيب فليختايم مصطلح (علم المستقبليات), ليشير به الى علم جديد, اعتبره فرعا من علم الاجتماع شبيها بعلم الاجتماع التاريخي, وإن نبّه إلى اختلافهما في الهدف: فعلى حين يحاول علم الاجتماع التاريخي ضبط التنبؤات بالنسبة للماضي, فإن علم المستقبليات يتوجه لدراسة التطورات القادمة, وتعيين مدى احتمال وقوعها أو قابليتها للتحقق.

وفي فرنسا, كان للتيارات الفكرية التي انطلقت عقب الحرب العالمية الثانية, وبخاصة الوجودية, فضل في تهيئة مناخ ملائم للتوجه إلى دراسة المستقبل, ساعد عليه التقليد السائد هناك في توظيف العلم والتكنولوجيا لخلق مجتمع أفضل.

ومع نهاية الخمسينيات, سك الفيلسوف والمربى الفرنسي جاستون برجيه اسما آخر لعلم المستقبليات, هو (علم الريادة), واعتبره: (لا مجرّد مذهب أو نظام فكري, بل هو تأمل في المستقبل, يبتغي إبراز معالمه, بواسطة التوصل إلى مسالك منهجية يمكن تطبيقها على عالمنا المنطلق بسرعة متزايدة).

وفي محاولة منه لتكريس هذا العالم, قام بتأسيس (المركز الدولي لعلم الريادة) في باريس عام 1957, ودورية في السنة التالية, تعالج بحوثها أوجها من ملامح المستقبل.

وفي عام 1960, وهي السنة التي توفي فيها برجيه, قدم مواطنه روبيردو جوفينيل مشروعا لفت أنظار العلماء إلى الجهود الفرنسية في ريادة هذا المجال, وأقام (الجمعية الدولية لدراسة المستقبل).

وعلى حين حمل هذا الاهتمام في فرنسا أصباغا فلسفية, فقد اتصل في الولايات المتحدة بأهداف عسكرية, وتحديدا بالرغبة في تطوير الاستراتيجية والأسلحة الحربية, وهو ما دعا إلى إنشاء (مركز الاستطلاع التكنولوجي البعيد المدى للجيش), و(مشروع رائد للبحث والتنمية) و(معهد هدسون), بجانب مئات المعاهد والمؤسسات والمشروعات واللجان والدوريات, من أشهرها (لجنة العام 2000), و(مركز البحوث حول المستقبل).

وفي (الاتحاد السوفييتي) - السابق - اتخذ الاهتمام بدراسة المسقبل من النظرية الجدلية أساسا منهجيا له, لا يرتبط بالمجتمع وتوجهاته الاقتصادية والسياسية فحسب, بل ويتواصل مع الممارسة الاجتماعية ومصالح الطبقة العاملة, اعتباراً من أن وضع هذه الطبقة وطموحاتها هما اللذان سيؤثران في أساليب التنبؤ ومحتواه.

ولم تلبث أنحاء أخرى من العالم أن شهدت إقامة مؤسسات, كرّست نفسها لهذه الدراسة, سواء في إطار هيئة الأمم المتحدة وداخل منظماتها المتخصصة, أو عبر إدارات التخطيط والتنمية والاستراتيجية المحلية.

علم المستقبليات

ولعل الإشارة هنا واجبة, إلى ضرورة التمييز, ابتداء, بين مصطلحين خلطت الترجمة العربية بينهما: المستقبلية, وعلم المستقبليات.

فالمستقبلية Futurism نزعة بدأت في مجال الفن التشكيلي مطلع القرن العشرين بإيطاليا, وأكّدها بيان رائدها فردريك مارينتي (المانيفستو المستقبلي), لتضحى بعدها إحدى صيغ الأيديولوجيا الرسمية لإيطاليا الفاشية.

ومن أبرز ملامحها الخروج على المألوف, والتوجه إلى الجديد والمجهول, وتدمير الأطر الأكاديمية الشائعة, والرغبة في المغامرة, وتمجيد الآلة والتكنولوجيا, وتعظيم الروح الوطنية الشوفينية.

ورويدا رويدا, لم تقتصر هذه النزعة على الفن التشكيلي, وإنما تعدّته إلى الأدب والموسيقى وعلم الجمال والسياسة والأخلاق, وإن تسبّبت شطحاتها البعيدة عن التحفظ, في نفيها من المشهد الثقافي.

أما علم المستقبليات فيمثل محاولة علمية, تنطلق من ملابسات الواقع الراهن نحو استشراف منهجي ومتبصّر لتوجهاته المتوقعة, وإن راوح تطوره بين منهجين, بسبب من التعلق بمظهرين للمستقبل: المستقبل المحتوم ويشكّل البحث فيه منهجا واقعيا ووضعيا, والمستقبل المطلوب صنعه ويعدّ النظر فيه منهجا معياريا.

كذلك اكتسبت مقاربة قضايا هذا العلم أهمية ملحوظة في المعارك الأيديولوجية, التي دارت حتى وقت قريب بين التوجهين الاشتراكي والليبرالي, فالمفهوم الماركسي للتاريخ, يمكن رؤيته كنظرية ومنهج للتنبؤ العلمي, يساعدان على التأكد من اتجاهات وتيارات التاريخ الرئيسية, ومن ثم على تخطيط السمات الأكثر أهمية لمجتمع المستقبل. وعلى الجانب الآخر, يشير رافضو هذا الاتجاه إلى أن أي محاولة للتنبؤ بالمستقبل على أساس من قوانين مفترضة للتطور التاريخي, لم تعد قادرة على استشراف نتائج بعينها على درجة من الضبط والدقة, آخذين عليها تلك النظرة الحتمية التي تقوم عليها, وهو ما يتضح - على سبيل المثال - في كتابات الفيلسوف البريطاني النمساوي كارل بوبر.

ورغم هذه الاختلافات, يتفق المشتغلون بهذا العلم على أن الاهتمام بالمستقبل, مع سعيه في نطاق الحاضر إلى استشرافه, يدفع بفئات ثلاث من الوقائع: الاتجاهات الكبرى, والأحداث المنبئة بالمستقبل, والاتجاهات الصغرى.

تتكون الاتجاهات الكبرى من مجموع المعطيات التي تبدو محتّمة ومتوقعة, مع احتمال ضئيل بالخطأ, مثل اتجاهات النمو السكاني, ومعدل التقدم التكنولوجي, والتحضّر.

والأحداث المنبئة بالمستقبل, هي التي لا تكون في أكثر الأحيان ممكنة الإدراك, فلا تشكل سوى وقائع محتملة, سرعان ما تتأكد أهميتها وتكون لها انعكاسات عميقة وواسعة, مثل الاختراعات الحديثة, أو ظهور فئات اجتماعية مهمشة.

أما الاتجاهات الصغرى, فهي التي يمكن إدراكها عبر ظروف وملابسات حاضرة, مثل احتمالات الطقس.

وعبر هذه الوقائع الثلاث, يمكن أن نميز في دراسة المستقبل مستويات ثلاثة للتعرف عليه: الأول, ويتصل بالتخمين Conjecture, ويعني الاعتماد على الاحتمالات, خصوصا عندما تكون البيانات غير موجودة لتحديد قيمة متغير ما بدقة. والثاني, يرتبط بالتوقع Forecasting, ويقوم على تقدير التطورات القادمة, أو اقتراح النتائج المتوقعة, على ضوء تواتر وقوع حدث معين بدرجة لافتة من الانتظام, ويستخدم عادة في مجالات التخطيط الاجتماعي والتنمية المحلية والإدارة الاقتصادية. أما المستوى الثالث, فيتعلق بالتنبؤ Prediction, ويعد أقوى المستويات الخاصة باستشراف المستقبل, فيما يتوق إلى تشخيص حدث معين, والتوصل بصدده إلى نتائج محددة, قبل أن يستنفد سياقه, عن طريق التحليل العلمي لملابساته, والتخطيط لمواجهته, بواسطة التحكم في المتغيرات التي تحوطه, وهو ما يتصدى له علم المستقبليات.

ورغم ذلك, فهناك من يشكك في (علمية) هذا العلم, ويرى أن تسميته قد تكون مبالغا فيها, من منطلق أنها توشك على الإيحاء بأنه يدرك بوضوح غايته, وأنه بالتالي قادر على بلوغ نتائج مضمونة, فيما يستدعي النضج العلمي عدم التدافع في الادعاء بطاقاته المنهجية, إلى حد الجزم بكفايتها في استشراف نتائج بعينها.

ويصل هذا التشكيك إلى مدى أبعد, بالنظر إلى هذا العلم وكأنه ليس سوى تجمع علوم قائمة, وأن قضاياه سبق أن أخذتها على عاتقها علوم سابقة واضحة التحديد.

الخطابات الكونية

ومع تصاعد الحوار حول المستقبل وأزمة الحداثة والتقدم التاريخي والعلاقة بين الحضارات, منذ أزمة الرأسمالية في السبعينيات, وما أعقبها من صعود الليبرالية الجديدة, ثم ما حدث مطلع التسعينيات من غياب خيارات أخرى تنافس النظام الرأسمالي عقب سقوط الكتلة الاشتراكية, وإعلان النظام العالمي الجديد, وتآكل مشروع الدولة الوطنية في البلدان النامية, صاغ مفكرون غربيون خطابات كونية, تتميز باختراقها لحدود الجغرافيا والتاريخ والثقافة, وشمول موضوعاتها لقضايا عالمية معاصرة, عبّرت في العمق عن توجهات العولمة, في محاولة لفهم طبيعة هذه التوجهات واستكشاف آفاقها وفرصها وتحدياتها ومساراتها المستقبلية المحتملة.

ويلاحظ أن تنويعة المستقبل في هذه الخطابات تتخذ أكثر من صيغة: الجزْم بتغييرات حضارية نوعية لدى ألفين توفلر, أو التبشير بآفاق مازالت بعد في دور التجريب لدى جان فرانسوا اليوتار, أو التحذير من سقوط قادم لدى بول كنيدي, أو صوغ تنبؤ يجيء على هيئة قدر محتوم لدى فرنسيس فوكوياما, أو انتقاء متغير الدين الذي يقع الظن أنه سوف يحكم تكييف الأوضاع العالمية لدى صمويل هنتنجتون, أو تحديد اتجاهات التغيير العالمي مستقبلا بواسطة التدخل الأمريكي في بلورته وتوجيهه لدى توماس فريدمان.

وهذه التصورات قد تلعب دور الإيحاء الذي يدفع بالأمور, وهو ما تشي به, على سبيل المثال, أطروحة هنتنجتون عن حتمية صدام الحضارات, بما يستتبعه ذلك من جملة ردود أفعال, يستحيل فيها هذا الصدام إلى واقع, أو على الأقل يدفع باتجاهه.

على أن تناقض هذه الخطابات مع بعضها, يقلّل من كفايتها في استشراف المستقبل, وهو ما يتضح في تناقض أطروحة كنيدي عن معضلة السقوط مع ما يورده فوكوياما عن نهاية التاريخ, وهذه الأخيرة مع فكرة صراع الحضارات لدى هنتنجتون.

الأدوات المنهجية

ويبقى سؤال ماثل: ما الأدوات التي اتخذتها دراسة المستقبل واستشرافه?

إذْ من المسلم به أن نجاح هذه الدراسة في تحقيق أهدافها, يرتهن بالاختيار الرشيد لأنسب الأدوات الملائمة, وبالجهد المبذول في تمحيص هذه الأدوات وتنقيحها, وجعلها على مستوى عال من الكفاءة.

ويشهد الوضع الحالي لدراسات المستقبل استخدام أكثر من أداة, سواء تعلق الأمر باستشراف العلم أو الفكر أو الواقع الاجتماعي والسياسي.

هناك أولا مصطلح (النموذج الأساس), الذي صاغه فيلسوف العلم الأمريكي توماس كون, كأداة للتعرف على الإمكانات المستقبلية لحقول المعرفة العلمية المختلفة, اعتبارا من سماحه بتعيين أكثر العلامات الببليوجرافية قيمة وأهمية في مسيرة هذه الحقول.

ولدى كون, يعني هذا النموذج مجموعة الفرضيات والقضايا والتقاليد التي يجمع عليها المجتمع العلمي في مرحلة تاريخية معينة, وتخدم في توجيه النظر إلى الجوانب الأكثر دلالة عليه, وهو ما يمكن من خلاله تفسير تحولات العلم المعاصر.

وفي مجال الفكر, يبرز مصطلحا جاستون باشلا حول (القطيعة المعرفية) La Coupure epistemologique و(الاسترداد المعرفي) La recurrence episte molohique, وإن بدا ترسيمهما لمسار المستقبل الفكري على صيغة حدّية وناجزة, تتعارض مع انفتاحه على إمكانات أكثر رحابة.

أما التحليل المابعدي Meta Analysis, فيمثل أداة وطريقة مثمرة في الدرس الاجتماعي, تقوم على تحليل نتائج التعدادات والمسوح والدراسات والبحوث ذات الصلة بالظاهرة المراد استشراف مستقبلها, عن طريق إعادة تركيب هذه النتائج, خاصة ماطرح منها أفكارا ورؤى حول تغيرات الظاهرة.

على أن استطلاع البدائل المستقبلية المحتملة, باستخدام أسلوب السيناريوهات, يعد أنضج هذه الأدوات, وإن أُخذ عليه تقييد وحصر اتجاهات المستقبل داخل نطاق مسارات خالصة, دون الوضع في الاعتبار ظروف التداخل بينها.

ومع ذلك ورغمه, يعد تحليل السيناريوهات, الهادف للوفاء بمتطلبات التحليل المستقبلي, عملا علميا إبداعيا, يتطلب معرفة علمية دقيقة لحصاد واتجاهات تغير الظاهرة المبحوثة, كما يتطلب خيالا علميا منضبطا, توضحه وتثريه الرؤية النظرية المنفتحة على الجدليات المحتملة, وهو ما يتضح بالأخص في مجال الدراسات السياسية والاجتماعية.

وفي مصر, تكاد الدراسة التي قدمها عبدالباسط عبدالمعطي حول الطبقات الاجتماعية ومستقبل مصر, تمثل اتجاها جديدا في استخدام هذا الأسلوب, وتقوم على إعادة النظر في النماذج العلمية السائدة, انطلاقا من رفض اختزال الظواهر والعمليات الاجتماعية, أو الفهم الخطّي والتفسير الآلي لحركتها, وطرح التعقد الذي يفسح في المجال أمام فهم أرحب لمختلف التشابكات والتفاعلات الجدلية, بين الأفعال والظواهر والعمليات, في علاقاتها بماضيها وحاضرها, ومن ثم استشراف مستقبلها.

ورغم أي مأخذ حول المحاولات الدائبة لدراسة المستقبل, يظل لها علوّ نبرة الواقعية, وعدم الاستناد إلى فائض الخيال, لحاقاً بالتقدم المتواتر في مختلف مجالات الحياة.

محمد حافظ دياب مجلة العربي مايو 2004

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016