منذ بدايات يوسف إدريس ، والوصول بالقصة العربية إلى ما يؤكد هويتها الخاصة شغله الشاغل.
إنه لم يبدأ بالسؤال: كيف تكون القصة العربية عالمية؟ أو كيف يمكن أن توجد لنفسها مكانة وسط الإبداع العالمي؟ بل بدأ بالسؤال الآخر، أو الوجه الأكثر جذرية من - السؤال: كيف أصوغ قصة مصرية؟ كيف أصنع من ملامح الواقع الخاص بي قصة ترتبط بخصوصية هذا الواقع وملامح تراثه الحي وأناسه البسطاء؟ ".
لم يكن السؤال يعني رفض الحوار مع الأدب العالمي ، فما أكثر ما حدثنا يوسف إدريس عن قراءاته في هذا الأدب، موباسان وجوجول وتشيكوف وهيمنجواي وكافكا. وقد كان يفيد من كل ما تقع عليه عينه أو يصافح سمعه، وينطوي على إعجاب خاص بتشيكوف الذي اشترك معه في مهنة الطب، وفى الاهتمام بالفرد العادي البسيط أو الكائن المنسحق الباحث عن قبس من كرامة أو عدل وسط مجتمع ظالم.
شكل خاص للقصة
ولكن هذا التأثر لم يكن يعوق مسعاه الخاص في البحث عن شكل متميز لكتابة القصة، شكل يصل بين العناصر البنائية والأبعاد الدلالية في صيغة واحدة متميزة، تصنع ما كان يوسف إدريس يحلم أن يجعل منه "حكاية مصرية جدا". ولعل في تكرار هذا العنوان اللافت عنده ما يؤكد مسعاه وخصوصية عمله.
وتبدأ هذه الخصوصية في التكشف عندما تلاحظ أن " البطل " الأساسي في أعماله هو المواطن البسيط ، البائس ، الساعي وراء أحلام العدالة الاجتماعية، الباحث في ليل القرية أو قاع المدينة عن كسرة خبز، أو زجاجة دواء، أو لحظة دفء، أو أمل في الحرية، البطل الذي جسده عبد الكريم برحلته الليلية المحبطة في " أرخص ليالي ( 1954 ) والصول فرحات في " جمهورية فرحات " ( 1956) الخيالية التي يختلقها ويرويها لأحد المعتقلين السياسيين الشبان، وشهرت في " قاع المدينة" (1957) حيث يمارس القاضي دورا لا يقل عن دور " العسكوي الأسود" وفاطمة في "حادثة شرف" (1958) التي هي الوجه القروي من حادثة " الستارة " في " آخر الدنيا " (1961) وفهمي في " لغة الآي آي " (1965) وحامد في " النداهة " (1969) والأرملة ببناتها في " بيت من لحم " (1971) والشحاذ في " حكاية مصرية جدا " التي تضمها مجموعة " أنا سلطان قانون الوجود " (1980) والموظف الذي يتغير حوله كل شيء ويفقد كل شيء فلا يملك سوى الانتحار في قصة 19502 من مجموعة " اقتلها " الانتحار في قصة 19503 من مجموعة " اقتلها " ( 1982 ) وحسن في " العتب على النظر " ( 1987 ).
هذا النوع المتميز من الشخصيات هو نفسه المتكرر في الروايات، سواء كنا نتحدث عن "قصة حب" (1956) أو " الحرام " (1958) أو "العيب" (1960) أو " البيضاء " (1960) أو " العسكري الأسود" أو السيدة فيينا " (1962) أو " رجال وثيران " (1964) أو (نيويورك 80 " (1980)، فاللازمة المتكررة للشخصيات لا تفارق المرأة التي تسقط تحت وطأة الفقر في القرية والمدينة (الحرام- العيب) والمثقف الثوري الذي يسعى إلى تغيير الواقع ( قصة حب - العسكري الأسود) ويصطدم بالآخر (البيضاء ، السيدة فيينا، نيويورك 80) والذي يظل في كل الأحوال مرتبطهـا بواقعه الحاص، بما يؤكد هويته، وخصوصية القص الذي يتجلى فى سياقه ، فالرواية- كالقصة القصيرة- ليس لها إلا سبيل واحد- فيما أكد يوسف إدريس في تقديمه لرجال وثيران- هو الكتابة بصدق ورأي وإحساس عن أنفسنا التي نعرفها، أو عن غيرنا ممن لا تقل معرفتنا بهم عن معرفتنا بأنفسنا.
خصوصية البطل الإدريسي
إن المواطن المصري العادي هو من يعرفه يوسف إدريس حق المعرفة، وينحاز إليه كل الانحياز، وهو الذي تدور حوله كل القصص. هذا المواطن، رغم القيود الاجتماعية المفروضة عليه، والقضبان الفكرية التي تسجنه، لا ينطوي على صفات السلب التي كان ينطوي عليها بطل تشيكوف الشهير إيفان ديمتريفتش تشرفياكوف في " موت موظف " بل ينطوي المواطن الإدريسي على ملامح لا خطئها العين. إن خفة الدم، وروح المرح، والإحساس الساخر بالأشياء، والانبثاق العفوي بالنكتة، و " الفهلوة، والتوليفة المتناقضة التي تمزج الشجاعة بالجبن والبطولة باللابطولة، صفات لا تفارق هذا الفرد الذي يخدعنا ببساطته الظاهرية، وتجعل منه نموذجا بشريا من نوع مخصوص، نوع تلمسه في معجزة الطفلة الخادمة التي تتضمنها قصة " نظرة "، وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض، أو سخرية المريض القادم من أسيوط الذي هو المجلي الأول لفهمي في لغة الآي آي، أو شتائم برعي في مجموعة " أرخص ليالي " . إنه النموذج الذي يجسده الشيخ علي في ثورته العارمة التي تثير ابتسامة السخرية، والفرفورية تماما، حين لا يجد الطعام، فيستمطر الكون كله " طبلية من السماء " في المجموعة الثالثة " حادثة شرف "، أو الذي يجسده " حمال الكراسي " النحيف المعروق، بساقه الضامرة، وجسده الذي صنع فيه العرق ترعا ومصارف وأنبت شعرا وغابات وأحراشا، وهو يحمل كرسيا لا يقل وزنه عن الطن أو ربما أطنان ويتحرك به!.
هذا النموذج البشري الخاص جدا هو الذي يستقطر يوسف إدريس ملامحه الفارقة، ويجرد منها شخصية " فرفور" الذي أصبح ونمطا متميزا، فهو التابع البسيط، المرح، المراوغ، الساخر، البائس، القادر على تحويل مأساته إلى نكتة التي يحولها إلى سلاح لتعرية " السيد "، والقادر على الكشف عن عورات مجتمعه بحضوره الماكر ولسانه المنفلت.
خصوصية الحكي الإدريسي
وتقترن خصوصية هذا النموذج بخصوصية الحكي، خصوصا حين يستلهم يوسف إدريس تقاليد الحكاية الشعبية التي تفتح وعيه الأدبي عليها، وهي تنساب إلى ذاكرته عبر الأقاصيص التي بدأت بما قصته عليه جدته في قرية البيروم من قرى الشرقية. هذه التقاليد الخاصة بالحكاية تنسرب ملامحها البنائية في القصة الإدريسية : الحكاية الإطارية التي تحتوي على حكاية أو حكايات فرعية، على نحو ما نجد في جمهورية فرحات، استخدام العامية في السرد والحوار، البنية التي تقوم على أضداد متقابلة في ثنائيات متعارضة، الجنس الذي ينسرب في الحكايات تلقائيا كما ينسرب النسغ في النبات، صيغ الحكي التي سرعان ما تتحول إلى صيغ رمزية، إعادة خلق الشخصيات المرتبطة بالحكاية الشعبية نفسها، على نحو ما نجد في حكاية " النص نص " في قصة " معجزة العصر" ، استعادة وظيفة شخصيات الحكاية الشعبية الخارجة على القانون مثل " الغريب " ، الجنوح إلى الغرائبي والعجيب، على نحو ما نرى في " الشيخ شيخه " أو "الأورطي " الكتابة التي تنقلب رمزا، حيث تغدو القصة نفسها تمثيلا كنائيا يفضي ظاهره إلى باطنه، مركزية الحدث التي تتباعد بالقص عن الشيئية أو الشعرية، حيث " الفعل " هو المركز المهيمن دائما، تحويل العامية إلى لغة كتابة، بالمقاربة بينها وبين الفصحى، أو بمزجها بالفصحى، أو بجعلها مهيمنة على الفصحى، في أسلوب يستقطر بلاغة العامية، ابتداء من قصص البدايات في " أرخص ليالي " وانتهاء بالقصص الأخيرة في " العتب على النظر " ، وكلا العنوانين يمثل انحرافا مقصودا عن الفصحى. وكما حاول يوسف إدريس أن يجعل من قصصه القصيرة ورواياته " حكايات مصرية جدا " فإنه فعل الشيء نفسه في المسرح، خصوصا بعد أن أمدته تجاربه في مجال القصة بما منحه الثقة في أطروحاته النظرية المواكبة لإنجازاته التطبيقية. ولذلك نشر في بداية عام 1964- العام الذي عرض له فيه المسرح القومي مسرحية " الفرافير" - ثلاث مقالات في مجلة " الكاتب "، أعداد يناير وفبراير ومارس بعنوان " نحو مسرح مصري " ، وكان عنوان المقالة الثانية، تحديدا، " رد على المستوردين وبداية التعرف على ملامحنا " ، بالغ الدلالة على ما قصد إليه يوسف إدريس. فقد كان القصد من هذه المقالات زلزلة العقيدة السائدة في ذلك الوقت، وهي أن المسرح ظاهرة أوربية محضة.
خصوصية للشكل المسرحي المصري
إن المسرح خاصية من خصائص كل شعب، فيما يؤكد يوسف إدريس، وكما أن لكل شعب لغته ورقصه ورسمه وموسيقاه وغناءه، فلكل شعب ميل غريزي إلى المحاكاة (أي التمثيل) وله تجمعاته الخاصة التي تتم فيها هذه المحاكاة، وشكله الخاص من " التمسرح ". ومن ثم فإن المسرح كالموسيقى وكل الفنون لا يوجد شكل عالمي له، فإن هذا الشكل الذي نظنه عالميا ليس سوى الشكل الأوربي المتطور عن الشكل الإغريقي الذي يوازي - بدوره- غيره من الأشكال القديمة، ولا يمكن أن يصلح هذا الشكل الأوربي لكي يفضي بنا إلى حالات " التمسرح " الخاصة بنا، والتي لابد لنا- كي نصل إليها في قمتها- من البحث الشاق الدءوب عن شكلنا المسرحي المستمد من بيئتنا وتاريخ وجداننا. ويختتم يوسف إدريس أطروحته بقوله إن الفنون تختلف اختلافا جذريا عن العلوم، على أساس أن العلم عالمي في شكله ومضمونه، في حين أن الفن محلي الموضوع والمضمون على الدوام.
ويعثر يوسف إدريس على حالات (التمسرح) في تراثه وواقعه، وبخاصة في تلك التقاليد الأدائية التي ينسى فيها كل فرد ذاته ويندمج في الذات الجمعية الكبرى، مثل السامر وحفلات الذكر والاحتفالات بالموتى والأراجوز وخيال الظل، بل حتى الجلوس على المقاهي يرى فيه يوسف إدريس حالة بليدة من حالات التمسرح، تنطوي على نواة الحاصية الأولى وهي الجماعية. وبالبدء من هذه التقاليد، والانطلاق بها للوصول إلى المستوى الفني والموضوعي المتقدم، يمكن أن ينشىء يوسف إدريس مسرحا يقف إلى جوار المسرح الأوربي.
الفرافير
و "الفرافير " بنية حوارية، مكتوبة على أساس اشتراك الجمهور والممثلين في إنتاج العمل المسرحي باعتبارهم وحدة واحدة. وإذا كان على الجمهور أن يسهم في العرض بالتعليق، على نحو ما يحدث في " السامر " فإن الممثل الذي يلعب دور " الفرفور" لا ينبغي أن يندمج في الدور، بحيث ينسى جمهوره، بل عليه أن يقسم وعيه بين الدور والموقف والانفعال من ناحية والجمهور من ناحية ثانية، ذلك لأن " الفرافير " بوجه خاص والمسرح كما يتصوره يوسف إدريس بوجه عام لا يعتمد على مخاطبة الشعور الفردي للكائن وسط الجماعة بل على مخاطبة الشعور الكلي للجماعة المنبعث من بين أفرادها ( في ذلك ما يميز " الرافير" حتى عن التقاليد التي أسسها الكاتب الألماني برتولت برخت في المسرح ). ولمخاطبة هذا الشعور لابد من وعي متميز عند الممثل، وعي يلتقط مدى حرارة التجاوب ودرجته عند الجمهور، فيقوم بتعديل النص بناء على الإشارات الواصالة إليه ، فيتأنى الممثل أو يسرع أو يتوقف أو حتى يضيف كلمة أو أكثر إلى النص. وإذ يؤكد يوسف إدريس أن لشعبنا طريقته الخاصة في النظر إلى الأشياء، فإنه يؤكد أن على الممثل أن يرى المواقف بعينه وعيون كل الجمهور المحتشد لمشاهدته على السواء، وذلك في أداء يغير تغييرا كبيرا من طريقة التمثيل نفسها، فلا يصبح الأداء خطابة رصينة كمنولوجات جورج أبيض المشهورة، أو همسا متهافتا في هشاشته، بل همسا له وقع الخطب الرنانة التي تتلقفها الأذن كأنها الهمس.
وفرفور يوسف إدريس خفيف الدم. وأحد من القلة القليلة الدالة في نموذجيتها ونمطيتها على أبطال يوسف إدريس من ناحية، وعلى الشخصية المصرية من ناحية ثانية، فهو شخصية لا يكف لسانها عن " سلخ " الأوضاع والآخرين والأصدقاء ونفسها وكل شيء. مزيج مركب من أحمد المجلس البلدي والشيخ علي والبرعي ومحمد، وأبو الهول والجندي في قصص يوسف إدريس القصيرة ورواياته. هذا المزيج الذي تتكون منه شخصية تنترع الضحك من الآخرين، وتجبرهم على الإنصات إليها، يجتمع في إنسان عادي تماما، ولكنه يختلف عن أقرانه في أن له رأيا في كل شيء، وفي أنه يلح على أن يوصل رأيه، بواسطة السخرية أو التعقيب الماكر أو النكتة التي تروض الجبابرة. ومهما ضحكنا منه أو ابتسمنا لسخريته فإننا لا نستطيع أن ننسى الأثر الذي تحدثه كلماته في النفس، فهي كلمات تهدم وتبني النفوس، وتخز الأرباب وتسقط عنا وعنها الأقنعة.
ويتحول هذا الفرفور نفسه إلى قناع مسرحي، ينطق من خلاله الكاتب الذي يسخر حتى من نفسه، وكأنه انعكاس للفرفور الذي يتبادل معه الصنع، ويحتج معه على الفساد الاجتماعي والسياسي ، صارخا بعباراته الشهيرة، قبيل إغلاق الستار:
"شوفوا لنا حل، حل ياناس، حل يا هوه...لازم فيه حل... لابد فيه حل.. مثل عشاني أنا.. عشانكم أنتم".
وهي عبارات تكشف عن الصوت المختفي وراء قناع " الفرفور " والذي يختفي وراء قناع آخر في " المخططين " ليصرخ فيمن حوله، قائلا: " أنا كافر بخطوطكم وأبيضكم وأسودكم. أنا العالم بتاعي العالم اللي بيناديني وبحلم بيه عالم تاني خالص. أنا لا يمكن أخدع نفسي وأضحك عليها.
لا يمكن أخدع الناس اللي برا دول واكدب عليهـم".
وإذا كانت هذه العبارات دالة على مغزاها السياسي الاجتماعي، وتومىء إلى كاتب لا يمكن أن يخدع الناس أو يكذب عليهم، بل يبشرهم بعالم آخر يجاوز عالمهم المنحدر، فإن هذه العبارات نفسها تؤكد أن تغيير حياة الناس وتثويرها لا يمكن أن يتما إلا بتغيير علاقات إنتاج الفن الذي يخاطبهم وتثويرها. ومن هذا المنظور، كان تأسيس الكتابة الجديدة- سواء في القصة أو المسرح- والبحث الدائم عن هوية متميزة لها، وتأكيد أصالتها في مواجهة الآخر، أمرا يصل بين التزام الكاتب بقضية فنه التي لا تنفصل عن قضية مجتمعه، فالقضيتان وجهان لعملية واحدة، هي عملية التأصيل التي ظلت تؤرق يوسف إدريس طوال حياته الإبداعية.
وكما كانت قصص يوسف إدريس بداية لعهد جديد من الكتابة، ترك علاماته في الأجيال التي جاءت بعده، وبرزت ابتداء من الستينيات، وظلت تدين له بالكثير من الآفاق التي رادها، والأساليب التي ابتدعها، والتقاليد التي أسسها، فإن مسرحياته كان لها الأثر نفسه، كما كان للبيانات النظرية التي كتبها، والتي سبقت مسرحياته أو واكبتها أثر على الأجيال اللاحقة بل على الجيل السابق عليه.
تأصيل للشكل المسرحي العربي
بعبارة أخرى، كان تأصيل يوسف إدريس لفن المسرح افتتاحا لبداية جديدة في تأصيل المسرح العربي كله. إذ بعد مقالاته في "الكاتب" ( نحو مسرح مصري ) بأعوام قليلة، أصدر توفيق الحكيم كتابه " قالبنا المسرحي " عام 1967 ليصل بالأطروحة التي بدأها يوسف إدريس إلى مداها الطبيعي، ويطرح على نفسه السؤال: هل يمكن أن نخرج عن نطاق القالب العالمي وأن نستحدث لنا قالبا وشكلا مسرحيا مستخرجا من داخل أرضنا وباطن تراثنا ؟ ويؤكد الحكيم أن الأمر ممكن بالعودة ى التراث وتطوير الوظيفة التي كان يقوم بها الحكواتي فى المقلداتي وإذا كان يوسف إدريس قد دعا إلى الإفادة من مسرح السامر الشعبي فإن الحكيم يدعو إلى تجاوز مسرح السامر إلى ما هو أوسع منه. ولكن الأكثر أهمية عند الحكيم أن يكون القالب المسرحي العربي قابلا لأن يكون وعاء يحتوي على غيره، بمعنى أن الشرط الأساسي للقالب العربي هو أن يستطيع الأوربيون، بدورهم، هم وغيرهم من مؤلفي العالم، أن يصبوا في هذا القالب أفكارهم وموضوعاتهم، شريطة المحافظة على أساس فلسفة هذا القالب التي تختلف عن فلسفة القالب الأوربي، وهي أنه يقوم على فكرة التقليد وليس على فكرة التمثيل. وبعد الحكيم بعام واحد، مضى علي الراعي بأطروحة يوسف إدريس إلى أفق آخر، من خلال دراسته لدور " الكوميديا المرتجلة في المسرح المصري ". وكان ذلك في كتاب الهلال الذي صدر عام 1968، حيث يشير الراعي إلى المحاولات المواكبة، والموازية، التي حملت الدعوة نفسها في الوطن العربي كله.
خطوات أخرى على الطريق
وكانت البداية الإبداعية ليوسف إدريس في " الفرافير " الخطوة الأولى التي تلتها خطوات كثيرة في مصر، منها " ليالي الحصاد " لمحمود دياب و" ياسين وبهية " لنجيب سرور وغيرهما في مصر.
وفي سوريا تتابعت محاولات سعد الله ونوس، منذ أن قدم عام 1967 مسرحيته " حفلة سمر من أجل 5 حزيران " ، وأتبعها بمسرحية " مغامرة رأس المملوك جابر ". وفي تونس، تتابعت محاولات عز الدين المدني وأقرانه من شباب المسرح التونسي، منذ عام 1968، وذلك من منطلق مؤداه، أنه لابد أن يكون لنا مسرح متميز، يجسد بشكله ومضمونه شعار قوميتنا وذلك في جميع نواحيه: تأليفا وتمثيلا وإخراجا، وحدث الأمر نفسه في الجزائر، من خلال الأعمال التي استهلها قدور النعيمي. أما في المغرب، فقد واصل الطيب الصديقي محاولات التأصيل العربية للمسرح، وتولى كتابة وتمثيل وإخراج أعماله التي عرف بها مثل " ديوان سيدي عبدالرحمن المجذوب " و " مقامات بديع الزمان الهمذاني " ، ابتداء من الموسم المسرحي 1966 - 1967. وقد تصاعدت المحاولة نفسها في السبعينيات على يدي عبد الكريم برشيد بكتابته المسرحية وأطروحاته النظرية التي تضمنها كتابه " حدود الكائن والممكن في المسرح الاحتفالي " (1985) وهو كتاب لا ينفصل عن كتاب زميله عبدالرحمن بن زيدان " أسئلة المسرح العربي " (1987).
من المؤكد أن كل هذه المحاولات اشتبكت بنزوع قومي عام ولده المشروع القومي في وجدان المبدعين. وهو نزوع أججه ما تركته كارثة العام السابع والستين من اثار على المبدعين، وما فرضته على وعي الكتاب من ضرورة مراجعة الذات في علاقاتها بالواقع والآخر والتراث على السواء. وهي مراجعة اتخذت شكل تأكيد الهوية في الغالب، وارتبطت بالبحث عن الخصوصية التي تميز " الأنا " وتحميها من الضياع في " الآخر" ومن ثم البحث عن جذور الهوية التي لابد أن تستند إليها الأنا القومية في سعيها اللاهب لمجاوزة كارثة العام السابع والستين. وهكذا، أخذنا نسمع عن محاولات تأصيل متعددة للأشكال القومية للإبداع : القصيدة المدورة، والقصة التي تستلهم التراث وتتواصل معه وتعيد إنتاج أشكاله، والمسرحية التي تعود إلى الجذور وتتأسس بها.
ولكن محاولات يوسف إدريس في تأسيس هوية متميزة للكتابة كانت سابقة على العام السابع والستين، ومرتبطة بمحاولة استشراف أفق متميز لكاتب يبحث عن وسيلة تحقق الاستقلال لأداته الفنية بعد أن تحقق الاستقلال لأمته. ومن هنا، كانت البداية التي أسسها هذا الكاتب في " الفرافير" ، والتأصيل الذي قام به في مقالاته " نحو مسرح مصري " ، ودعوته الملحاحة قبل ذلك إلى تأصيل شكل متميز للقصة القصيرة، ذلك كله كان بمثابة الشعلة التي لم تلبث أن توهجت في الوطن العربي كله، لأنها وجدت المناخ الموافق والسياق التاريخي المتجاوب والمولد في آن.
ولا شك أن اتساع صدى الاستجابة إلى ما نادى به يوسف إدريس واتساع مجال الدعوات الموازية، يؤكد أن السعي وراء الأصالة لم يكن قرين نظرة إقليمية ضيقة إلى الأدب، أو حتى إلى الثقافة المصرية، على نحو ما رأينا في كتابات حسين فوزي في المرحلة الساداتية، بل كان البحث عن " حكاية مصرية جدا" والسير " نحو مسرح مصري " أمرا مرتبطا بإدراك التنوع داخل وحدة الثقافة العربية، والوعي بأن التراث المصري تراث له هويته العربية في آخر المطاف، وأن تأصيل إبداعه لا ينفصل عن تأصيل هوية الكل الأشمل الذي ينتمي إليه هذا التراث في معاركه الحديثة، سواء كنا نتحدث على المستوى القومي أو العالمي.
ولم يكن يوسف إدريس منفصلا عن نزوع المشروع القومي للناصرية نحو التأصيل، حين كان يلح على تأسيس هوية متميزة للإبداع، فقد كان ذلك استجابة مباشرة وغير مباشرة ، واعية وغير واعية، ا!لى المشروع الذي ظل منتميا إلى أجنحته اليسارية التي لم تتناقض جذريا مع الناصرية في أحلامها عن الاشتراكية والحرية والوحدة، لقد كان بحثه عن هوية خاصة للكتابة موازيا للبحث القومي عن هوية عربية للعدالة الاجتماعية، أو ما كان يسمى الاشتراكية العربية لا التطبيق العربي للاشتراكية. وذلك بحث كان تأسيسه للهوية العربية للإبداع الوجه الآخر للوعي بدور الكاتب في الانتقال بالكتابة - والانتقال بالمجتمع معها - من منطق التبعية أو الاستهلاك إلى منطق الاستقلال والإنتاج. وقد وعى يوسف إدريس أن ذلك هو الشرط الأول لأن يسهم بالكتابة في الانتفال بالمجتمع من مستوى الضرورة افى الحرية، ومن حالة التبعية إلى الاستقلال التام.
هكذا، ظلت الأسئلة الخاصة بتأسيس الكتابة للمسرح هي نفسها الأسئلة الخاصة بتأسيس الكتابة فى القصة القصيرة والرواية، فهي أسئلة تأصيل، تبدأ وتنتهي بتأسيس هوية لكتابة ترتبط بهوية من يتلقاها ! ارتباطها بالشرط التاريخي الإبداعي الذي يحياه الكاتب وجمهوره - المتلقي. وذلك بالمعنى الذي يتسع بدائرة المتلقي وهمومه لتستوعب الأمة كلها، وهموم الوطن كله، فالكتابة لا ينبغي أن تتجه إلى الخاصة، أو إلى فئة ترى نفسها في مقام الصفوة، ولا ينبغي أن تنشغل بالتجارب الغنوصية التي تباعد بينها وبين الجماهير العريضة من القراء، أصحاب المصلحة الحقيقية في وجود الكتاب. ولذلك كان يوسف إدريس لا يكف عن إعلان كراهيته ونفوره من محاكاة تيارات الحداثة الغربية. وبقدر ما كان ينظر إلى المحاولات القصصية الموازية للحداثة الغربية على أنها شعوذة بهلوانية، تتجاهل الأهداف الأساسية للإبداع العربي، وتسلبه هويته وخصوصيته، فإنه كان يرى الشيء نفسه في المسرح الطليعي، والشعر التجريبي، وكل ما كان يراه مناقضا للأصالة التي كان يراها شعار هوية وعلامة وجود.