مختارات من:

اليوم أُولد من جديد

أمين الباشا

رأيته متجهّم الوجه وحركات يديه غير طبيعية.. يسير فشخة إلى الأمام وفشخة إلى الوراء.. صوته مسموع.. هو لوحده.. يكلّم من؟ كان يكلّم نفسه.. حاله.. لم يجد من يكلّمه.. وإن وجده فهو لن يكلّمه.. هو مع ذاته.. وإن لم يكن مع ذاته، فهو يتكلّم.. لأنه بحاجة إلى فتح فمه المليء بكلام كان يخبئه ولم يتفوّه به ولم يستطع أن يخرجه من بطنه وباطنه وفمه ومن بين شفتيه.. ضاق صدره.. طفح كيله.. لا سبيل للخروج من حالته.. لم يستمع إليه أحد. هذه حاله.. الناس الذين يعرفهم، حالتهم طبيعية راضون عنها، مطمئنون.. صحتهم جدية.

رأيته آتيًا.. وصل إليّ جلس بقربي، أتاه نادل المقهى: فسلّم عليه: «منذ زمن لم نرك ياسيدي» قال له: حلّ عني أجابه! ابتسم النادل وابتعد لاعنًا الزبون.. والزبون هو شخص معروف في مجتمع المقهى وفي الخارج، لكنه غاب عنه وعن أصحابه مدّة طويلة.. لهذا قال «منذ زمن لم نرك». أما أنا، وعندما جلس بقربي، نهرته: هوه.. هوه.. ما بك؟ أين كنت.. مع من تتكلم وأنت تسير؟ لا خبر منك ولا شيء! أجابني: لا شيء.. أبدًا لا شيء.. ثم تابع: أنت وغيرك تقولون لا شيء.. كل هذا لا شيء.. لا تهتمّون بشيء. وكل الأشياء عندك لا شيء.. أنا وأنت وهؤلاء وكل الناس والبلد لا شيء. والأشياء التي تحصل معي ومعك وفي البلد لا شيء.

صحيح.. هذا صحيح.. أنا لست ضد ما تقولونه وتؤمنون به أن البلد.. وأنك أنت وأنا وهؤلاء والدنيا كلها لا شيء.. لكني، هنا أسكته: هوه.. هوه.. صباح الخير.. أخبرني.. أنت لست طبيعيًا اليوم.. ما بك؟ ماذا حدث؟ نظرت إلى وجهه بتمعّن، ابتسمت له لأرى صدى ابتسامتي له.. ابتسامتي لاقت صداها.. هدأ، التجعدّات اختفت في جبينه وتحت عينيه وعلى خديّه.. قلت.. أهلاً وسهلاً! مشتاق.. أجابني: خرجت البارحة من المستشفى، لعنة الله على من بناه، كرهت الممرّضين والممرضات والأطبة والطبيبات، وروائح المستشفى وأدويته وآلاته وسريره.. آلات وأشرطة وأكياس مليئة بالمائع الملوّن استعملوها في جسدي من فوقي وتحتي.. داسوا على خصوصات جسدي.. دون إذن ولا خجل.. ينظرون وينظرن هنّ أيضًا بنظرات فيها من اللؤم اللطيف الباسم والتشفي.. هذه ثقافة المستشفى.. الطعام.. رائحة الطعام..صينية الطعام.. الملاعق.. السكاكين.. الخبز.. الأكياس البلاستيكية التي تغلّف الأكل وكل شيء.. شعرت أن المستشفى سيجعل مني إنسانًا بلاستيكيًا.. الرائحة لا أستطيع وصفها.. فجأة يدخل شخص بثوب أبيض.. يفحصك، يدسّ يديه في كل أماكن جسدي.. ياللعار.. يأخذ يدك.. يسجّل، يخرج دون كلمة.. تمرّ دقائق، تدخل صبية بثوب أبيض تدخل يدها إلى جهة ما من الجسد ثم تبتسم وتخرج، أعيد إليها الابتسامة بابتسامة.. تمضي دقائق.. أغمض عينيّ.. أستسلم للنعاس.. لا أجد سوى الاستسلام لكل ما يدور حولي.. في غرفتي.. لكن عينيّ لا تلبثان أن تعودا إلى الغرفة الفستقية اللون... وأنا العاشق لكل الألوان.. كرهت اللون الفستقي.. وطعم الفستق.. الغرفة مليئة بالناس ذوي الثياب البيضاء بقيادة الطبيب الذي أعرف وجهه واسمه وصوته.. لا يكلمني.. أنا رقم من الأرقام، جنسيتي: مريض. موطني: المستشفى. منزلي: السرير. لا يقول الطبيب لي كلمة، لكنه يدسّ يديه في جسدي ويتكلم مع فريقه ثم يبتسم ويخرجون، وأعود إلى وحدتي في غرفتي التي تتدلّى منها شرائط كثيرة وأنابيب منها معلّق ومغروس في أصابعي وأمكنة أخرى.


***


يسكت وينظر إلى البعيد كأنه رأى أحدًا لم يره منذ سنين.. نظرت في نفسي تجاه نظره.. لم أجد أحدًا.. قلت له: كيف حالك الآن؟ أجاب: كما ترى.. عال.. لقد تحررت.. أناالآن حرّ.. قلت: أنت حر دائمًا!!

- ابتلع يوميًا ثمانية أدوية منذ سنين.

- منذ سنين.

- نعم.. خرجت من المستشفى البارحة، قرّرت صباح هذا اليوم أن أرمي الأدوية وأتحرّر من الأطباء والمستشفى وأهلاً وسهلاً بالنتائج.

ـ أي نتائج؟

- الأدوية.. أدوية للقلب والضغط والكولسترول والسكري وغيرها.. وغيرها، رميتها بعد أن استعملتها منذ أكثر من عشرين عامًا ولم تغيّر شيئًا بي وبجسدي وبأمراضي، الآن أحاول أن أكمل حياتي بدونها. لأرى ما سيحصل!

ثم تابع بعد استراحة: يا أخي هل تعتقد أن الطبيب هو ساحر أو ملاك يبعد المرض والموت عنك؟ والدواء.. يا الله.. كيف كنت طيّب القلب، مطيعًا لما يقوله الطبيب.. والناس وما ينصحون به.. الطبيب يسمّي الدواء والناس تنصح.

- هذا طبيعي.. كنت تهتم بصحتك.. اسمع، قال مقاطعًا: أدعوك للغداء معي، قال هذا وضحك ورنّت ضحكته بأذنيّ، سألته لماذا تضحك؟ قال: اليوم أيضًا حرّرت معدتي!

- يعني؟

- سآكل كل ما كان ممنوعًا علي أكله.. ما أطيب اليخنات الدّسمة.. والبقلاوة.. كلها اليوم.. اليوم أولد من جديد.

أمين الباشا مجلة العربي ابريل 2012

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016