مختارات من:

تحقيق الهوية

الطاهر بن جلون

فوسكولو رجل هادئ, إنه أستاذ للعلوم الاجتماعية بجامعة كطان, فهو من ميلانو ويشق عليه إيجاد جمالية ما لهذه المدينة حيث اللون السائد هو الرمادي القاتم, لون صخور (الإطنا) إنه شغوف بمركز المدينة العتيقة الباروكي. لكنه لم يفهم قط لماذا تأخذ السماء ألوان (الإطنا) شهورا عدة خلال السنة, ويعلم بالمقابل أن المدينة تتحكم فيها جماعات من المافيا, قرأ هذا مرارا في الصحف. وذات يوم حيث كانت السماء محمّلة بالسحب المثقلة السوداء قرر العودة إلى منزله عابرا المدينة العتيقة, عند وصوله إلى حي كابوتشينو عرج على يمينه جراء انحراف بسبب الأشغال, ثم دلف إلى زقاق حلزوني فأدرك أنه الوحيد الذي يمر من هنا على متن سيارته ثم رأى سيارة مرسيدس عتيقة واقفة بمدخل الزقاق يشغلها رجلان يبدو عليهما أنهما في غفوة, وبينما هو يسير ببطء إذ لمح رجلا مسلحا يشير له بالتوقف.

- مساء الخير سيدي أوراقك من فضلك?

أخرج فوسكولو بطاقة تعريفه ورخصة السياقة والبطاقة الرمادية وتأمين سيارته. أخذ الرجل الذي يرتدي الجبردين الواقف على الرصيف جميع الأوراق ثم احتفظ ببطاقة التعريف وأرجع له باقي الوثائق دون أن يكلف نفسه عناء النظر إليها.

- انتظر لحظة.

بقي فوسكولو جالسا داخل سيارته ولعل الرجل ذهب ليستشير رئيسهم داخل المرسيدس العتيقة. عندما سوى فوسكولو المرآة العاكسة كان بإمكانه أن يرى أو أن يتصور المشهد الذي يحدث على بعد مائة متر خلفه. رأى فعلا أحد الرجال داخل السيارة يتلفن ويقوم بحركات بالرأس. بعد لحظة من الزمن رجع الرجل ذو الجبردين وأعاد له بطاقة تعريفه.

- ماذا تفعل هنا يا أستاذ?

- أنا في طريق العودة إلى مسكني.

- لكن أنت لا تقطن كابوتشينو.

- كنت أود القيام بنزهة قبل الذهاب إلى منزلي.

- القيام بنزهة رغم عدم وجود شيء جدير بالمشاهدة?

- الطقس جميل فللمرة الأولى ليست السماء مكفهرة.

- طيب من الآن فصاعدا تجنب المجيء إلى هنا لتأمل النجوم فإن النجوم لن تغنيك في حال خلاف أو خلط. انصرف!

انطلق فوسكولو قائلا مع نفسه إنه خلص من خطر داهم. حكى هذه الواقعة لزوجته لكنها لم تبد أي دهشة. في اليوم التالي اتصل هاتفيا بصديقه إنريكو جلانتيتو مفوض الشرطة.

- هل تعلم أن رجالك قاموا بتفتيشي البارحة في حي كابوتشينو!

- رجالي!

- نعم الشرطة كانت البارحة في كابوتشينو وقامت بتحقيق هويات المارّة.

- لا أظن, سأستخبر لكني واثق أنني لم أرسل أعواني إلى كابوتشينو ابق على الخط!

بعد لحظة قال أنريكو:

- يا صديقي إنك وقعت ضحية للهلوسة إلى اللقاء.

اتصل بعد ذلك برئيس الدرك الذي قام برد فعل كإنريكو نفسه.

- أظن أنك ضحية حلم مزعج, نحن عندما نقدم على عملية تفتيش لا نختبئ داخل سيارة عتيقة ومبتذلة.

اتصل برجال الإرشادات العسكرية دون أن يهن عزمه ثم بقبطان الثكنة. هذا الأخير كان جازما, وظن أن الأمر يتعلق بسخرية غير لائقة من طرف الأستاذ الجامعي الذي أصبح يمزج الواقع بالخيال.

من المحتمل جدا, قال فوسكولو مع نفسه أن في هذه المدينة لا الشرطة ولا الدرك ولا الجيش قاموا بأي تفتيش. الكل على ما يرام, أكيد أنه حلم. إنني لم أذهب إلى كابوتشينو, لم أخضع لتفتيش ولم يكلمني أحد, لقد أفرطت في العمل, وأصبت بهلوسة هذا كل ما في الأمر. رؤيا شنيعة إننا لسنا في دولة في حال حرب. حتى إني أتساءل هل حي كابوتشينو لايزال موجودا. من المفترض أنه دك بعد زلزال أرضي أو أنه أجلي خلال الهيجانات الأخيرة للإطنا. لكن البارحة التحقت بمنزلي مشيا على الأقدام. هكذا تمشيت وألقيت نظرة على واجهات المحلات ولاحظت أن ثمن الألبسة في ارتفاع, توقفت بالمقهى وشربت كابوتيشنو كبيرا, لم أخضع لأي تفتيش لنوقف البحث في هذا الأمر. نحن في بلد حر وديمقراطي حيث لا نوقف الناس دون سبب لننس هذا الحلم المزعج.

اتصل بإنريكو بعد الظهيرة ليقدم له الاعتذار.

- لا لقد قاموا بتفتيشك فعلا, شاهد أخبار هذا المساء, قتيلان اثنان وثلاثة جرحى بكابوتشينو لقد خلصت من خطر داهم, نصبت إحدى العائلات كمينا لإقصاء أحد أفراد جماعة مناوئة كان يحاول السيطرة على الحي. نلتقي بعد قليل لنشرب نخبا, معذرة إنني لم أكن على اطلاع جيد.

بقي فوسكولو مخبلا لحظة. حتما لن يتعود هذا الرجل القادم من الشمال على السحر والجمال المقلق للجنوب الملغز.

الطاهر بن جلون مجلة العربي مايو 2003

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016