عندما يحيط بك البياض الأشهب الباذخ لدار الأوبرا المصرية الجديدة، يحيلك إلى بياض آخر، ناصع بعيد، يستدعي سيرة دار أوبرا قديمة، ويستدعي صفحات مدهشة من تاريخ مصر.
إذا زرت القاهرة وأردت أن تتجه إلى دار الأوبرا الجديدة، فسيقول لك الجميع، عليك بميدان التحرير، إنه (صرة) العاصمة التي تتفرع منها طرقها الرئيسية، من هناك يمكنك أن تمضي سيرا على الأقدام إلى كوبري قصر النيل، ثم إلى أرض الجزيرة حيث تقع دار الأوبرا الجديدة. فإذا كان الوقت شتاء، فستجدها رحلة لطيفة قصيرة لا تستغرق سوى ربع الساعة، ترى نفسك بعدها في «المركز الثقافي القومي» الذي اشتهر باسم «الأوبرا» على الرغم من أنه مجمع ضخم يضم مؤسسات أخرى مثل مسرح الهناجر، والمجلس الأعلى للثقافة، وصندوق التنمية الثقافية، وغير ذلك. وتمتد أبنية المركز على مساحة واسعة في قلب عاصمة مزدحمة مكتظة، لا يكاد المرء يعثر فيها على متر واحد شاغر لقدم صغيرة. ما إن تدخل لأرض المركز حتى يستولى عليك الشعور بالدهشة والراحة والألفة من المساحات الممتدة، والفراغات، والهدوء، والأشجار المشذبة، والإضاءة المرمية على جذوع النخل وأطراف الشجر، وتماثيل أحمد شوقي ثم أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، والكافيتريات الأنيقة، شيء ما يجعلك تحس أنك بوثبة صغيرة انتقلت من القاهرة إلى عالم آخر فسيح وإنساني، يتجول فيه مساء شباب عشاق، وعائلات صغيرة، ومثقفون، بين أصداء الموسيقى المنبعثة من قاعات الأوبرا، ولوحات المعارض، والمقاهي الأليفة الأنيقة، وملصقات العروض المسرحية.
المكان مفتوح للجميع، لا يعترض أحد طريقك، ولذا أصبح المركز حديقة كبيرة ذات مذاق خاص يجمع بين المنتزه الثقافي والإنساني. المركز يضم أبنية عديدة تشغل نحو 14 ألف متر مربع، ويغلب عليها مزيج معماري منسجم يؤلف بين الطراز العربي القديم ذي القبب العالية المستديرة، والأروقة، والطرز المعمارية الأخرى الحديثة. المركز القومي، ودار الأوبرا مجرد جزء منه، اشتهر باسم «دار الأوبرا»، لأن الأبنية تظل مجرد أبنية فحسب، أما اسم دار الأوبرا فإنه عطر التاريخ الذي يهب على كل شيء هنا، ويضفي على المكان حياة قديمة، تضرب بجذورها بعيدا، وتورق في الجو بقصص الصراع والطموح.
مكان يخبئ أزمنة
تمضي في رحاب الأوبرا الجديدة، فيحيلك بياضها الأشهب البازخ، إلى بياض ناصع بعيد تألقت به الأوبرا القديمة. و حكاية بناء دار الأوبرا المصرية، القديمة، ثم احتراقها، ثم إنشاء وافتتاح الدار الجديدة في أكتوبر 1988(في شهر احتراق المبنى التاريخي)، هي من زاوية ما، حكاية تطور مصر الثقافي عبر قرن ونصف القرن تقريبا، بكل ما تنطوي عليه الحكاية من فروع ممتدة ومتشابكة في الزمان والمكان. وفي هذه القصة تلوح صورة بارزة ملونة بالمصير الفاجع للخديو إسماعيل حفيد محمد علي - باني نهضة مصر الحديثة.
الخديو (1830- 1895) الذي أنهى تعليمه في باريس، واستولى عليه حلم قوي بأن يجعل من مصر «باريس الشرق» ويراها لؤلؤة مشعة بكل مظاهر الحضارة الحديثة، وقد سيطر ذلك الحلم على الخديو إسماعيل إلي درجة جعلته: «يغامر بعرشه في سبيل مقاومة الدول الأوربية جمعاء..»، وآثر المغامرة، فعزل عن الحكم ونفي، وقضى ما تبقى من حياته وحيدا في قصر على البوسفور بتركيا، يجتر ذكريات عظمته الغاربة ويكرر لنفسه بأسف أن ابنه الخديو توفيق الذي عينته بريطانيا مكانه: «أمير بنفسية عبد». ولم يستطع إسماعيل أن يرى مصر، إلا حين أغمض الموت عينيه، فجاءها محمولا في نعش ودفن بمسجد الرفاعي، لكن قصة تطلعه إلي النور ظلت حية، وآماله في ربط مصر بثقافة البحر الأبيض المتوسط تجددت أشد ما تكون في أوراق طه حسين وفي كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»(1938 ).
دار الأوبرا، ونفقات بنائها، وما جلبته على إسماعيل من بريق العظمة وعتمة العزلة، هي ذاتها التي رفعت شخصا آخر إلى سماء الخلود، وهو الموسيقار الإيطالي المعروف جوسيبي فيردي (1813-1901) بعد أن كتب «أوبرا عايدة» خصيصا للدار المصرية بتكليف من إسماعيل، وأصر في التعاقد مع ممثلي الخديو على تسلم مكافأته عن التأليف وقدرها مئة وخمسون ألف فرنك سبائك من ذهب خالص، فكان له ما أراد! وهي القصة ذاتها التي رفعت تمثال الحرية الأمريكي الشهير إلى سماء مدخل نيويورك إلى يومنا هذا. وكان ذلك حين عادت «أوجيني» إمبراطورة فرنسا إلى بلادها مبهورة بعد حضورها الاحتفال بافتتاح قناة السويس في نوفمبر 1869، وأرادت وقد غمرها الامتنان أن ترد للخديو إسماعيل بعضا مما أغدقه عليها، فكلفت النحات الفرنسي فريدريك بارتولدي بصنع تمثال ليوضع في مدخل قناة السويس يمثل فلاحة مصرية بغطاء رأس فرعوني ذراعها مرفوعة وتحمل في يدها شعلة ترمز للحرية، وسمى التمثال «مصر تنير آسيا». لكن الحرب التي نشبت بعد ذلك بين فرنسا وبروسيا عاقت وصول التمثال إلى مصر، فقامت «الرابطة الفرنسية الأمريكية» بإهداء التمثال للحكومة الأمريكية، لكن بعد أن أدخل النحات ذاته بعض التعديلات عليه، فأضاف إلى طوله ثلاثة أمتار، ونقل الشعلة إلى اليد الأخرى، وغير الرداء بحيث لا يشبه أردية المصريات، وبدل الملامح إلى ملامح إغريقية، ليستقر التمثال في مدخل نيويورك مطلا على المحيط الأطلنطي إلى يومنا هذا باسم «الحرية تنير العالم».
بين ثقافتين
قصة دار الأوبرا المصرية، منذ بدايتها، هي أيضا قصة الاشتباك المؤلم بين الثقافة العربية عامة، والثقافة الأوربية، اشتباك بين طرف طموح وذكي يعاني التخلف ويسعى ليواكب الحضارة، وطرف آخر - أكثر تطورا - يجتهد للسيطرة بالمدافع والعلوم والفلسفة وحيل صغار المرابين الماكرة. لكن من قال إن الدماء لا تسيل على جوانب الترقي ؟ ألم تدخل المطبعة إلى مصر على وقع حوافر الخيول الفرنسية؟
قبل أن تحترق دار الأوبرا القديمة في أكتوبر عام 1971 - ومازالت أسباب الحريق مجهولة - كان اسمها أولا «الأوبرا الخديوية» ثم «الملكية»، ثم أصبحت بعد ثورة 1952 «دار الأوبرا» من دون ألقاب أو تكليف، إلى أن شب فيها الحريق المشئوم فأحال مبناها - بعد أكثر من مئة عام على إنشائها - إلى مجرد أنقاض تصاعد منها إلى سماء القاهرة دخان الذكريات من لوحات كبار المصورين التي احترقت فوق جدران الأوبرا، ومناظر الأوبرات والباليهات والنوط الموسيقية التاريخية لمئات السيمفونيات، وآلات العزف، ولم يخرج سالما من الكارثة سوى تمثالي «الرخاء» و «نهضة الفنون» للمثال محمد حسن اللذين ثبتا في مدخل الدار عام 1948. وقد حفظ التمثالان بعد الحريق في مسرح الطليعة، وظلا هناك سبعة عشر عاما ينتظران مع مصر عودة «أوبراها»، إلى أن أنشئت «دار الأوبرا المصرية» الجديدة عام 1988، وانتقل التمثالان الوحيدان الناجيان إلى ساحة مبنى المركز الثقافي القومي علامة على اتصال التاريخ القديم بالحديث ولو بصورة مؤلمة. الأوبرا الخديوية اتسعت لثمانمائة وخمسين متفرجا، واشتملت على أماكن للراحة والتدخين، وارتفع مبناها ثلاثة طوابق، الأول للعرض، والثاني لتخزين المناظر والمعدات، والثالث لحفظ الملابس والأثاث، وعلى منصة الأوبرا القديمة وبين أروقتها جال عظماء الفن المحلي والعالمي مثل: جورج أبيض والشيخ سلامة حجازي، وقائد الأوركسترا العظيم أرتور توسكانيني، والمؤلف الفرنسي الشهير سان سانص، كما شهد أمسيات ثقافية ضمت أدباء عظامًا كان منهم الشاعر الهندي العظيم رابندرانات طاغور، والكاتب الإيطالي المعروف لويجي بيراندللو، وغيرهم. ولزمن طويل استقر ورسخ في الأذهان أن المقصود بدار الأوبرا هو ذلك المبنى التاريخي الذي نهض كتحفة معمارية في ميدان «إبراهيم باشا». أما الآن فإن اسم دار الأوبرا لم يعد مرتبطا بمبنى معين، بل أصبح إشارة إلى هيئة ثقافية تشمل ثلاثة مسارح، ومتحفا لمقتنيات الدار ومكتبة موسيقية، ومعرضا للفنون التشكيلية (داخل نطاق المركز الثقافي القومي)، ويتبعها في القاهرة مسرح معهد الموسيقى العربية، ومسرح الجمهورية، وكذلك مسرح سيد درويش والمسرح الروماني (كوم الدكة) في الإسكندرية.
شرق قريب، وغرب بعيد
نفقات بناء الأوبرا الجديدة لم تجلب على مصر متاعب كتلك التي جلبتها عليها في المرة الأولى ضمن نفقات الخديو إسماعيل وديونه وبذخه، فقد أنشئت بمنحة مالية قدرها ثلاثون مليون دولار قررت اليابان منحها لمصر عام 1983، وتم وضع حجر الأساس لبنائها في 27 مارس 1985، واستغرق العمل فيها نحو أربع سنوات، وافتتحت في 10 أكتوبر 1988، في الشهر ذاته الذي احترقت فيه الأوبرا القديمة. حفل افتتاح الأوبرا الجديدة اشتمل على عرض من فقرتين: مصرية وهي نشيد الجهاد القديم تلحين عبد الوهاب ولكن بتوزيع موسيقى جديد، وفقرة يابانية تكريما للدولة صاحبة المنحة قدمتها فرقة الكابوكي اليابانية للرقص الإيقاعي الشعبي. ومع أن افتتاح دار الأوبرا الجديدة حدث شغل الساحة لثقافية، إلا أن مياها كثيرة قد جرت في النهر، ما بين الدار الأولى، والدار الجديدة. ففي المرة الأولى كانت الأوبرا الخديوية أول دار من نوعها في إفريقيا قاطبة، أما الآن فإن حركة التطور جعلت من إنشاء مثل تلك الدور أمرا مألوفا، وعلى سبيل المثال فقد تأسست في سورية دار أوبرا شيدت على مساحة 45 ألف متر مربع تطل على ساحة الأمويين وافتتحت في 7 مايو عام 2004. وفي زمن إنشاء الأوبرا الأولى كانت مصر تحاول اللحاق بركب التطور الحضاري، ولم يكن قد انقضى على ظهور فن الأوبرا في إيطاليا (القرن 16 ) وقت طويل، وكان مازال يمثل نوعا مزدهرا من الفنون ورئة حية للتعبير، أما الآن فقد انطفأت لمعة ذلك النوع الأوبرالي. من ناحية أخرى فإن بناء دار الأوبرا الخديوية جاء في إطار حركة عامة من النهضة بادر إليها الخديو إسماعيل، في مجال التعليم، وتخطيط مدينة القاهرة، ومد خطوط السكك الحديدية، وإلغاء نظام السخرة، وتحرير التجارة، وافتتاح قناة السويس، وإعادة تنظيم الجيش وتدريبه، وإنشاء أول مدرسة للبنات في مصر، وتأسيس أول مجلس لشورى النواب في تاريخ البلاد عام 1866، واعتبار اللغة العربية هي لغة الدواوين الرسمية بدلا من التركية، وزيادة الرقعة الزراعية بمقدار مليون فدان. وفي السياق ذاته أقام الخديو إسماعيل أولا المسرح الكوميدي بالأزبكية واحتفل بافتتاحه في 4 يناير 1868، ثم بنى دار الأوبرا بعدها بعام. وكان في ترتيب الخديو أن تبدأ دار الأوبرا بعرض مصري احتفالا بافتتاح قناة السويس، فكلف مسيو «أوجست مارييت» (1821- 1881) عالم المصريات الفرنسي بكتابة قصة تصلح للأوبرا، على أن يقوم بتلحينها الموسيقى الإيطالي فردي. وكان مسيو «مارييت» موفدا من الحكومة الفرنسية لدراسة الآثار المصرية، لكن عشقه لمصر جعله يقرر الإقامة الدائمة فيها، وأصبح مارييت أول من درس الحضارة الفرعونية، وآثارها، وأول من أنشأ متحفا مصريا، وتقديرا لخدماته الجليلة منحه محمد علي لقب باشا. وهكذا كتب مارييت قصة استلهم أحداثها من تاريخ مصر هي «آييدا» (اسم الأميرة الأثيوبية ) الذي حرف فيما بعد إلي «عايدة». وتصور أوبرا عايدة انتصار الجيش المصري على الأحباش، والغرام الذي نشب بين «آييدا» الأسيرة الحبشية و «راداميش» قائد الجيش المصري، وانتهاء ذلك العشق بقرار الكهنة إعدام القائد لتورطه مع عشيقته في محاولة للهروب إلى الحبشة، وتنتهي الأوبرا بمشهد لعايدة التي أصرت على الموت مع حبيبها، والهبوط معه إلى المقبرة وسط مؤثرات موسيقية وضوئية تنعي الحب الضائع. وتولى صياغة تلك القصة شعرا غنائيا الإيطالي أنطونيو جيالانزوي صديق فيردي. لكن الظروف الصحية لفيردي عطلته عن تقديم العمل في موعده، فتم افتتاح الدار بأوبرا أخرى من تأليف فيردي أيضا هي «ريجوليتو» المأخوذة عن قصة «الملك يلهو» للكاتب الفرنسي العظيم فيكتور هوجو. أساطير وحكايات كثيرة عن المال والذهب والهدايا والملوك أحاطت بيوم الافتتاح، وبالزهو الذي شعر به الخديو إسماعيل وهو جالس إلى جوار «أوجيني» إمبراطورة فرنسا الرائعة الجمال، وفرانسوا جوزيف إمبراطور النمسا، وملك المجر، والأمير فريدريك ولهلم ولي عهد بروسيا، والأمير هنري أخ ملك هولندا والأميرة قرينته، والسير هنري إليوت سفير بريطانيا في الأستانة وعقيلته الليدي إليوت، والأمير محمد توفيق باشا ولي العهد، والجنرال إجناتييف سفير روسيا في الأستانة وعقيلته، والأمير طوسون باشا بن محمد سعيد باشا، مسيو فريدناند دي ليسبس، والأمير عبد القادر الجزائري، وكبار رجال الدين، مسلمين ومسيحيين. أما أوبرا عايدة، التي خلدت اسم فيردي من بين أعماله كلها، فقد عرضت بعد ذلك بعامين، حين قدمت في ديسمبر عام 1871، واستدعى الخديو لأجلها مشاهير المغنيين والمغنيات وأعظم المواهب الأوربية في التمثيل والإخراج، وأمر بصنع الملابس والمناظر في باريس، ولم يبخل بشيء على الإطلاق، فكانت البطلة الثانية في العمل ترتدي إكليلا من الذهب الخالص، بينما تسلح القائد راداميش بأسلحة من الفضة الخالصة، وتناقل مراسلو الصحف الأوربية أنباء العرض، فأحدثت أثرا مدويا في أوربا. وبعد أسابيع قليلة من عرض «عايدة» في مصر، قدم أول عرض لها في أوربا بدار أوبرا «آلاسكالا» بميلانو، وهناك قاد فيردي بنفسه الأوركسترا، وفي 26 نوفمبر 1873 شهدت نيويورك «عايدة» ثم توالى تقديمها على مختلف منصات العالم. ويذكر عبد الرحمن الرافعي في كتابه «عصر إسماعيل» أنه تم بناء دار الأوبرا في خمسة أشهر وبلغت تكاليفها 160 ألف جنيه، وجلبت لها الحكومة الجوقات الأجنبية وأغدقت الأموال والهبات عليها، فبلغ ما صرف على أفراد إحدى الجوقات في شتاء سنة من سني إسماعيل 120 ألف جنيه، ولا غرابة في ذلك فإن الممثلة الواحدة كانت تأخذ أحيانا ألفًا ومائة جنيه في الشهر»!!
عايدة في الهواء الطلق
لا شك أن الكثيرين يسمعون عن تقديم أوبرا عايدة في السنوات الأخيرة تحت سفح الأهرامات بالجيزة أو في معبد الأقصر، ويظن الجميع أن تلك هي المرة الأولى لعرض حي من ذلك النوع، إلا أن مصر شهدت عرضا مماثلا في الهواء الطلق بساحة الأهرام عام 1912، وجرى العرض ما بين الرابعة وحتى السادسة عصرا، وفي حينه خصصت شركة الترمواى - بحملة إعلانات ضخمة - رحلات خاصة بالترمواى للجمهور المتجه لمشاهدة ذلك العرض الفريد!
وإذا كان مفهوم «دار الأوبرا» قد اختلف فلم يعد يتطابق مع صورة المبنى الواحد، فإن المفهوم الوظيفى للدار أصبح مغايرا أيضا، بحيث غدت تقدم - ليس فقط العروض الأوبرالية - بل والعديد من العروض الموسيقية المتنوعة استجابة لمتطلبات التطور الثقافي.
الدار الجديدة في أرض الجزيرة تتألف أساسا من ثلاثة مسارح:
المسرح الكبير
ويشتمل على 1200 مقعد بالإضافة إلى قاعدة للأوركسترا، وزودت منصته بقدرة رفع آلي، وروعي أن تكون كل الخامات غير قابلة للاحتراق، كما تم تزويد المسرح بأجهزة إنذار مبكر، وجهزت منصته بأحدث أجهزة الصوت والإضاءة. وقد خصص ذلك المسرح لأكبر العروض والباليهات والأوبريتات المصرية والعالمية، وحفلات الفرق الموسيقية الكبيرة مثل فرقة الموسيقى العربية، وأوركسترا القاهرة السيمفوني، والفرقة القومية للموسيقى، ومؤلفات الموسيقي الكبير عمر خيرت وغير ذلك.
تقول إيمان لطفي مديرة المسرح الكبير: بني المسرح منذ البداية على أساس أنه معد للغناء الأوبرالي، بكل ما يستلزمه ذلك من دقة في توزيع الصوت ورنينه، بحيث يصل بنسبة متساوية لكل مقعد، هذا بجانب أن الصوت في المسرح يعمل بنظام البلاي باك، وتم رفع كفاءة المسرح من سنتين وتجديد السماعات والأجهزة كلها لتصبح سعتها أكبر، وعامة يعتبر من أحسن الأماكن المجهزة صوتيا. ولهذا فنحن الذين نتولى الإعداد لعروض الصوت والضوء. هناك شئ آخر، ستار من الحديد الصلب يهبط ليعزل المنصة عن المشاهدين في حال حدوث حريق. قدمنا مسرح شكسبير من لندن وفرقة «شو بوت» الأمريكية المسرحية، والبولشوي الروسي».
المسرح المكشوف
ويتسع المسرح المكشوف لنحو 600 مقعد مابين مدرجات ثابتة ومقاعد متحركة، وأغلب نشاطه يتم في موسم الصيف، وتقدم على منصته ألوان من الموسيقى الخفيفة، وحفلات للمطربين المصريين والعرب، مثل المغنية الفلسطينية عبير صنصور، وعازف العود العراقي نصير شمة، وغيرهما، وتقدم كذلك عروض الفرق الأجنبية، ومهرجانات الموسيقى الشعبية، وندوات ثقافية، كالاحتفال بيوم البيئة العالمي وغير ذلك.
تقول هويدا زكريا مديرة المسرح المكشوف: «يتميز مسرحنا بالطابع المفتوح للمكان، الذي يمنح فرصة الحضور للشباب، لأنهم يشعرون بأنهم غير مقيدين، ففي وسع المشاهد أن يدخل أو يغادر المكان بحرية، وأن يحضر مرتديًا الملابس التي تناسبه. طبيعة المسرح تحدد طبيعة جمهورنا الرئيسي، وهو الشباب من طلاب الجامعات والمدارس الذين يسمح لهم بالدخول مجانا، مثلما فعلنا في ندوة مع الدكتور أحمد زويل، وندوة الإعلامي حمدي قنديل. نشاطنا يبلغ ذروته في المهرجانات الصيفية حيث نقدم مزيجا من مختلف الفنون، فرق الفنون الشعبية، و الموسيقى العربية، والفرق الجديدة مثل «وسط البلد» التي تقدم للشباب لونا فنيا خفيفا. اعتمادنا على فكرة «مزيج من الفنون» مع تقديم ذلك في قاعة مفتوحة ومريحة».
المسرح الصغير
ويتسع هذا المسرح لثلاثمائة وخمسين مقعدًا فقط (كان أوسع من ذلك سابقا) وهو مخصص للعروض الموسيقية الصغيرة التي تشارك فيها آلتان أو أكثر، وكذلك للندوات العامة، ولتشجيع المواهب الشابة. يمتاز هذا المسرح في تصميمه بوجود انحناءات في الحوائط لنشر موجات تحافظ على الصوت مسموعا من دون ميكروفونات.
يقول عادل سعيد مدير المسرح الصغير: «كانت الفكرة الأساسية من هذا المسرح أن يتحمل أكبر عبء ممكن، وأن يعمل - كما هي الحال فعلا - 8 أشهر في السنة من دون إجازات. ونحن نحاول أن ننشر تذوق الموسيقى الكلاسيكية التي مازالت إلى حد كبير غير شعبية، وخاصة معزوفات الآلات المنفردة، مثل بيانو منفرد، أو كمان منفرد، بالإضافة إلى حفلات الغناء الأوبرالي، وهو ما ينفرد به مسرحنا في مصر كلها. ولدينا خطة جديدة لنشر التذوق الأوبرالي وتسويقه في الموسم القادم. ويساعد على ذلك أننا لا نضع الربح بحد ذاته هدفا لنا».
حماية الذاكرة
بالرغم من الحداثة المتألقة لدار الأوبرا المصرية الجديدة، تقودنا أبهاء الرخام والأعمدة الصقيلة إلى ركنين ينتميان إلى الماضي، وإن لم تبخل عليهما أنوار اللحظة الساطعة، فهما ذاكرة الأوبرا في مصر، أولهما المكتبة الموسيقية، وثانيهما متحف دار الأوبرا.
المكتبة الموسيقية التابعة لدار الأوبرا، تحتوي على عدد من الكتب بعدة لغات في الموسيقى وتاريخها، وقسم لأشرطة الفيديو يضم معظم الأعمال التي قدمت على مسارح الأوبرا، ومدونات موسيقية، وقصاصات من الصحف، وأقراص موسيقية مدمجة، وشرائح الليزر، وقاعة للاستماع، وأخرى للاطلاع، وهي مفتوحة لاستخدام الجمهور لكن من دون حق الاستعارة إلا بشروط معينة.
متحف دار الأوبرا
ويضم متحف دار الأوبرا جناحين، الأول خاص بدار الأوبرا القديمة حتى تاريخ احتراقها، ويعرض فيه نموذج (ماكيت) خشبي مجسم لمبنى دار الأوبرا الخديوية، ومجموعة صور نادرة لحريق الأوبرا، وصور لبعض العروض التي قدمت على مسرحها، وأرشيف خاص بكبار الفنانين الذين قدموا عروضا في دار الأوبرا. أما الجناح الثاني الخاص بالأوبرا الجديدة فيشتمل على توثيق لمختلف نواحي نشاط الأوبرا وعروضها، والملصقات التي استخدمت، وبه أيضا نموذج (ماكيت) مجسم للمبنى الجديد.
وعلاوة على ما سبق تضم الدار قاعة لكبار الزوار، وعدة قاعات للبروفات وغرف تدريب وفصولا تعليمية وغرف ملابس وديكورات، كما تم إضافة أكثر من مبنى جديد يقع في حرم الدار.
وتضم دار الأوبرا حاليا بين جنباتها عشر فرق متنوعة تقدم عروضها لشرائح مختلفة من الجماهير، وهى أوركسترا القاهرة السيمفوني، وأوركسترا أوبرا القاهرة، وأوركسترا أماديوس للحجرة، وفرقة أوبرا القاهرة، وفرقة باليه أوبرا القاهرة، وفرقة الرقص المسرحى الحديث، وفرقة الموسيقى العربية، والفرقة القومية للموسيقى العربية بقيادة سليم سحاب، وفرقة كورال أطفال الأوبرا، وفرقة الإنشاد الديني. وتنظم الدار مهرجانا سنويا للموسيقى العربية في فبراير من كل عام تشارك فيه وفود أجنبية ووفود من الدول العربية، كما تستضيف بصورة شبه منتظمة عددا من الفرق الأوركسترالية العالمية، وفرق الباليه العالمية مثل فرقة البولشوي الروسية، وفـرقة باليه انطونيوجادس (إسبانيا)،وستافسلافسكى(روسيا)، وزوربا (اليونان)، وهارلم (أمريكا)، وليون (فرنسا) كما عزفت في الأوبرا فرق أوركسترا عظيمة مثل فرقة أوركسترا الحجرة السيمفوني (برنستون) من أمريكا و(بروكيز) من النمسا و(تولوز) من فرنسا. بالإضافة إلى الحفلات التي قدمها عدد من ألمع نجوم فن الغناء في الوطن العربي مثل وديع الصافي وصباح فخرى.
الخروج من الباب الخلفي
نتسلل إلى «كواليس» المسرح الكبير قبيل أحد العروض، فتغمرنا الدهشة لهذا العالم الخفي الذي لا نراه من مقاعد المشاهدين، حركة دائبة لموسيقيين يتقاطرون بهمة حاملين آلاتهم المختلفة، وصغار من مدرسة البالية يقبلون أطفالا عاديين وسرعان مايتحولون إلى جنود من أزمنة بعيدة مزركشة، يزهون بملابس العرض الملونة والبنادق والسيوف التي لاتحرق ولا تجرح، ويشعون بنشوة الفن وهم يتقافزون متدربين على ما سيقدمونه لجمهور سيغمرهم بحرارة التصفيق. نختلس النظر من وراء الستار المغلق إلى الصالة، فيجمدنا الوجل ويتصاعد داخلنا التساؤل: كيف يحتمل الفنانون هذه الرهبة وهم يواجهون هذه الصفوف والطوابق المتتابعة ذات الشرفات، والأبصار والأسماع التي لاتقنع إلا بالكمال أو مايقارب الكمال.
نولي ظهرنا لقاعة الرهبة المتوهجة بالنور والأرجوان، ونتوجه إلى باب الخروج الخلفي، الذي هو باب دخول الموسيقيين والفنانين، يدخلون أناسا مثلنا، لكنهم فجأة يتحولون إلى نجوم تتألق في سماء المسرح الذي ترنو إليه الابصار وتصيخ الأسماع.
نخرج إلى الهواء الطلق، فنشعر بأننا كنا في محارة مسحورة، لكنها محارة لاتضج بوشيش البحر ورائحة مياهة، بل تموج بالنور والأنغام وبعطر عجيب. وإذا جاز التشبيه، فإن دار الأوبرا الحديثة هي زهرة تستمد عطرها كله من الماضي، مثل امرأة ناضجة تركت أجمل حكاياتها بعيدا في سنوات صباها. وأينما تلفت بوجهك سوف يهب عليك ذلك العطر، ويظل يتابعك بينما تعبر كوبري قصر النيل، ثم ميدان التحرير الذي كان يسمي ميدان الإسماعيلية نسبة للخديو إسماعيل. إنها أماكن تنتمي إلى الماضي نفسه الذي يعود إليه ذلك العطر العجيب، القريب البعيد.