إنه الفيلم الذي تصل مدته لأكثر من ثلاث ساعات ربع الساعة، وفاقت تكلفته العشرين مليون جنيه، ليصبح بذلك أضخم إنتاج سينمائي في تاريخ السينما المصرية.
ضم هذا الفيلم أهم وأشهر نجوم السينما العربية، وعلى رأسهم عادل إمام ونور الشريف ويسرا، و كتب له النص السينمائي السينارست «وحيد حامد»، عن رواية لـ«د. علاء الأسواني»، والتي تحمل الاسم ذاته ليخرجه «مروان حامد» في أول فيلم روائي طويل له. وكان للفيلم أن يعرض في أهم وأشهر المهرجانات العالمية مثل برلين وكان وتربيكا . يعقوبيان هي العمارة، التي سكنها الوزراء والباشوات والخواجات قبل ثورة يوليو1952، ثم كبار الضباط بعد الثورة.. وفي العمارة نتعرف على شخصيات الفيلم:
«زكي الدسوقي» عادل إمام ابن الحسب والنسب، وسليل أسرة باشاوية كبيرة، درس الهندسة في فرنسا، و انتهى به الحال إلى شقة متواضعة في (يعقوبيان)، تشاركه فيها أخته دولت (سعاد يونس) سليطة الطباع واللسان. يعيش زكي ما تبقى من عمره ليستمتع بحياة رخيصة في بارات وسط البلد، مع فتيات أكثر رخصاً. تحاول أخته دولت طرده من الشقة، التي يعيشان فيها سويًا، وتنجح في ذلك. ينتقل زكى للعيش في مكتبه، وفي طريق مغامراته العاطفية يقع في غرام بثينة (هند صبرى). أما الأخ ملاك فقد لعب دورًا رئيسيًا فيما بعد حينما حاول تدبير مؤامرة تنفذها بثينة، يستطيع بمقتضاها أن ينزع ملكية الشقة، التي يتخذها زكي لنفسه مكتبًا. وهناك علاقة زكي بخادمه المخلص فانوس، وبالمحامي (يوسف داود) الذي يناصره وهو في الحبس بعد ان اتهمته الشرطة بالزنى بناء على بلاغ من دولت أخت زكي. بثينة تبدأ بها أحداث الفيلم، وتنتهي. فى البداية تخبر أمها عن صاحب العمل الذي يغازلها، وفي النهاية تتزوج زكي الذي يكبرها بأربعين عامًا على الأقل، بعد أن تغني لهما كريستين (يسرا) - عشيقة زكي السابقة - أغنية قديمة اسمها «الحياة وردة».
خضوع وابتزاز
ونتعرف على الحاج عزام (نور الشريف): (جاوز الستين وبدأ منذ ثلاثين عامًا مجرد نفر سريح نزح من محافظة سوهاج إلى القاهرة بحثًا عن الرزق، والمسنون في شارع سليمان باشا يذكرونه وهو جالس على الأرض في ممر الأمريكين بالجلباب والصديري والعمامة وأمامه صندوق خشبي صغير، حيث بدأ بتلميع الأحذية، وعمل فترة فراشًا في مكتبة بابيك، ثم اختفى بعد ذلك أكثر من عشرين عامًا، وظهر فجأة وقد حقق ثروة (سنعرف أن ماسح الأحذية هذا تحول إلى مليونير من تجارة المخدرات، يمتلك نصف محلات وسط البلد، لكنه يطمح ويطمع في المزيد) . يدخل عزام مجلس الشعب عن طريق السياسي المشهور كمال الفولي (خالد صالح)، يتزوج سراً من سعاد (سمية الخشاب)، وهي أرملة اسكندرانية فقيرة وجميلة في ثلاثينيات العمر، ولديها طفل . ولأنه لايستطيع مواجهة أم العيال، فإنه يكلف بعض أتباعه بإجهاض سعاد بعد أن ترفض الانصياع لأوامره بعدم الانجاب. يحاول عزام الوقوف في وجه الفولي وهو أحد المسئولين الكبار بعد أن يرفض الخضوع لابتزازه، حيث يطالبه الأخير بنسبة من أرباحه، لكنه سرعان ما يدرك أنه يتعامل مع مافيا سلطوية كبيرة تستطيع الإطاحة به في أية لحظة، ويجد في النهاية أنه لا مناص من الخضوع. وإذا كان زكي يمثل جيلاً انتهت سلطته، فهو ابن وزير سابق، فإن عزام يمثل جيلاً سياسيًا لايزال في السلطة، يشرّع القوانين للشعب ولنفسه، والفيلم يعطي لهاتين الشخصيتين جذورًا اجتماعية، فلكل منهما مكانته وأهله، وكل منهما يبدأ من جديد.
إرهاب وانتقام
ابن بواب العمارة طه الشاذلي ـ محمد عادل إمام ـ هو شاب مقهور بسبب عمل والده الفقير، فلا يستطيع تحقيق حلمه في أن يكون ضابط شرطة، يتحول إلى «إرهابي»، ويُقتل بعد أن ينتقم لنفسه قبضوا عليه في إحدى المظاهرات، التي كانت تنظمها إحدى الجماعات الإسلامية، التي انتمى إليها. قبل موته تتركه خطيبته «بثينة» بسبب الفقر، فهي فتاة جميلة تعيش فوق السطوح مع والدتها، تعمل في أحد محلات الملابس لتصبح مطمع صاحب المحل، وتتطور حياتها بشكل سريع لتجد نفسها زوجة لزكي باشا.
ونتعرف على الصحفي الشاذ حاتم ( خالد الصاوي)، الذي يعمل كرئيس لتحرير إحدى الصحف الفرنسية في القاهرة، وهو ضحية لأم فرنسية كانت تخون والده، وفي النهاية يموت مقتولاً على يد صديق له.
وإذا كان زكي يمثل جيلاً انتهت سلطته، إذ إنه ابن وزير سابق، فإن عزام يمثل جيلاً سياسيًا لايزال في السلطة يشرّع القوانين للشعب ولنفسه، والفيلم يعطي لهاتين الشخصيتين جذورًا اجتماعية، فلكل منهما مكانته وأهله وكل منهما يبدأ من جديد.
شخصيات يائسة
في الفيلم (السيناريو) وقبلها في (الرواية) أنت بصدد شخصيات مجهضة ومقهورة ومكسورة ليس في حياتها أي بريق أمل، وليس في سلوكها ما يدفع للتفاؤل، وما يغري لمواصلة الحياة، بفعل سلطة غاشمة، سواء كانت السلطة السياسية أو السلطة العسكرية، أو حتى السلطة الاجتماعية. فطه الشاذلي يتم قهره عندما يتم رفض التحاقه بكلية الشرطة لخدمة الوطن، ويتم إجهاض حلمه وهو مازال في عنفوان شبابه عندما تُسد كل المنافذ أمامه، ويجد نفسه في أحضان إحدى الجماعات الإسلامية، والتي وجد بين أحضانها الطمأنينة والملاذ.
وبثينة يتم انتهاك عرضها نفسيًا، عندما يعتدي عليها صاحب المحل، وفي النهاية تضطر للارتباط برجل من سن جدها يجسّد أطلال الماضي طلبًا للحياة الآمنة. والجندى عبد ربه، تم انتهاك عرضه هو عندما وجد نفسه على قارعة المدينة فقيرًا معدمًا، لا يجد ما يسد رمق أسرته، وهو أحد حراس الوطن. وبالرغم من ذلك، فقد دفع ثمنًا غاليًا لمحاولته الانتقام من المدينة عندما فقد ابنه الوحيد. وسعاد زوجة عزام تم انتهاكها عندما تم الاعتداء عليها لإجهاضها والتخلص من حملها، وكل ما فعلته أنها طالبت بحياة طبيعية مع عزام . وحاتم رشيد تم انتهاكه، وهو صغير بسبب الإهمال الأسري.
وفي نهاية الفيلم، ستجد أن كل الشخصيات التي تمتعت بقهر الآخرين بقيت كما هي لتواصل رحلة الظلم والفساد . فكمال الفولي رجل السلطة القوي يختفي في عمق كادر يتلاشى منه النور تدريجيًا، وهو يفرض أتاوته على عزام . وعزام بالرغم من إدانته وإثبات تهمة تهريب المخدرات عليه، وبالرغم من اعتدائه السافر على سعاد، فإنه يخرج من أزمته مثل خروج الشعرة من العجين. وزكي الدسوقي الباشا الفاسد السكير العجوز المتصابي، الذي يجسّد الماضي بكل ظلاله الاستعمارية والفوقية في نهاية الرواية والفيلم يحتل قلب بثينة الأبيض النقي.
ربما يقصد الكاتب أن الفساد في الواقع أكبر من مجرد نهاية سعيدة تعيد بثينة إلى طه، وإنما الماضي المتمثل في زكي مازال يشد الحاضر إليه بكل قوة، متجاوزًا كل نداءات الإصلاح. بثينة هي الحاضر وهي تفاحة عمارة يعقوبيان، وهي صنيعة زمن المسخ الذي ساهم في صناعته في واقع الأمر زكي باشا وأمثاله. في الفيلم (السيناريو) أنت لا تستطيع أن تتعاطف مع أحد فالكل مدان، والكل في حالة تقدم إلى الخلف، والكل غارق في ذاته ليجتر عذاباته، أو يغرق في ملذاته عن طريق الهروب بكأس الخمر أو سيجارة الحشيش أو التوهان مع أغنية قديمة تعود إلى الخمسينيات اسمها الحياة وردة، لكنها أية حياة؟ وأية وردة؟!.
في روايته كان من الممكن أن يكتفي علاء الأسواني بشخصية واحدة وقصة واحدة، لكن كما يبدو فإن الأحداث في عمارة يعقوبيان تشابكت وتضافرت ونسجت مع بعضها حكايات لا أول لها ولا آخر لأنها تمس سكان عمارة بأكملها، تمس في دلالات الرمز حكاية وطن على مفترق طرق كثيرة.
منظومة تمثيلية
في الفيلم (الفن) نجح مروان حامد إلى حد كبير في انطلاقته الأولى في عالم الفيلم الروائي أن يثبّت أقدامه كمخرج متمكن من أدواته السينمائية. في إدارته للعمل ومع ممثلين كبار استطاع مروان أن يوظف كل أدوات الممثل الداخلية والخارجية، في تقديم منظومة تمثيلية جميلة وراقية، فعادل إمام في تجسيده لشخصية زكي الدسوقي لم يكن هو عادل إمام الذي نعرفه، فقد تخلى عن الكثير من لزماته الشهيرة ليغوص أكثر في أعماق الشخصية وليقدم لنا دورًا سيحسب له في تاريخه الفني. وفي عمارة يعقوبيان نستطيع أن نقول إننا خرجنا من كاريزما النجم إلى موهبة الممثل الذي يرغب في تقديم شيء مختلف عما قدمه من قبل. ويمكن التوقف كثيرًا عند أداء هند صبري التي جسدت دورها بتلقائية وبساطة، فهي أضافت إلى نجاحاتها السابقة نجاحًا جديدًا. ولنا أن نذكر دورها المميز في فيلمي (أحلى الأوقات) و(بنات وسط البلد).
واستطاع نور الشريف أن يجسد دور عزام بنجاح كما نجح خالد صالح في تقديم أفضل أدواره حتى الآن، عندما قدم درسًا في الأداء السهل الممتنع، وهو يجسد دور كمال الفولي، وكذلك خالد الصاوي الذي بذل جهدًا كبيرًا في تقديم شخصية حاتم رشيد. ويمكن الإشارة أيضا إلى الممثل الصاعد محمد عادل إمام، الذي أجاد تجسيد شخصية طه الشاذلي بموهبته وكذلك يمكن التوقف عند الأداء المتمكن لكل من أحمد راتب ويوسف داود وأحمد بدير ويسرا وسمية الخشاب وإسعاد يونس الذين لعبوا ببراعة ضمن منظومة تمثيلية أراد جميع المشاركين فيها أن يقدموا أفضل ما لديهم.
وغير الأداء التمثيلي هناك التصوير الاحترافي، الذي حرص على تقديم زوايا جديدة ولقطات عامة ومتوسطة وقريبة، موظفة تمامًا لخدمة الحدث. هناك أيضا الديكور الذي تم توظيفه ليلعب دورًا مهمًا في التعبير التشكيلي للصورة، ونجحت الموسيقى التصويرية في متابعة الأحداث، والتمهيد لها والتعليق عليها ولا ننسى الإيقاع الناعم والمدروس للانتقال من لقطة إلى لقطة، ومن مشهد إلى آخر، هذا بالرغم من التطويل الذي شعرنا به أحيانًا في تنفيذ بعض المشاهد، خاصة مشاهد الأمن المركزي أثناء المظاهرة، ومشاهد الوصلات الغنائية لكريستين، تلك المشاهد كان يمكن اختصارها دون التأثير على تدفق الصورة وتتابع الأحداث.
ويعني كل ذلك أن المخرج مروان حامد، وبالرغم من كثرة الشخصيات ونجومية الممثلين، وكثافة الأحداث، استطاع أن يثبت نفسه كمخرج واعد، يمكن أن نمنحه ثقة كبيرة في تحقيق نتاجات سينمائية كبيرة ومختلفة. وإن كان من المهم أن يحاول التخلص من تأثيرات الآخرين، فقد كان واضحًا تأثره بالعديد من المشاهد، التي نفذت من قبل في أفلام مثل (الإرهاب والكباب) و(اللعب مع الكبار).
تعبير صوري
اعتمد الفيلم إلى حد كبير على رواية ناجحة نفدت فور صدورها، ثم أعيدت طباعتها ومازالت من الأعمال الأكثر مبيعًا حتى الآن، وتجري حاليًا ترجمتها إلى العديد من اللغات. وهنا نؤكد ضرورة عودة السينما العربية لكي تسترد عافيتها وازدهارها إلى الرواية الأدبية، والعالم العربي يعج بالكثير من الروايات الناجحة,ونجح الفيلم إلى حد كبير في كسر التابوهات في تاريخ السينما العربية، ويناقش الكثير من القضايا المسكوت عنها، ولأول مرة يشير إلى بعض مواطن الخلل في التركيبة الاجتماعية والسياسية. لكن نتمنى ألا يكون كسر هذه التابوهات كان بغرض الاستفادة من هامش الحرية الذي اتسع قليلا في مصر في الآونة الأخيرة. ونتمنى ألا يكون كسر هذه التابوهات قد أضر بالفيلم من خلال التركيز على ما يعرضه من هذه المشاهد بدلاً من إلقاء الضوء على المشاكل الحقيقية للواقع السياسي والاجتماعي، والوصول من خلال عرض هذه المشاكل إلى بعض الحلول، التي من الممكن أن تساهم فى إضاءة شمعة في نهاية النفق المظلم.
وأخيرا نحيي الشركة المنتجة وقدرتها على المغامرة ونجاحها في فتح أسواق للفيلم العربي خارج الحدود. ونتمنى أن يشجع (عمارة يعقوبيان) بقية المستثمرين للخوض في مجال الإنتاج الضخم لتغيير وجه صناعة السينما العربية البائس، وضرورة تغيير ملامح هذا الوجه حتى لا يظل مليئًا بالتشوهات.